ظاهرة العولمة... والثقافة العربية
أدت ثورة الاتصالات والتكنولوجيا، بما أفرزته من معطيات كونية جديدة، إلى جعل العالم قرية صغيرة بحق. ومع انتهاء الحرب الباردة وظهور ما سمي (بالنظام العالمي الجديد) انتقل الاستعمار، ومعه الإمبريالية العالمية، إلى مراحل تتماهى مع طبيعة هذا التقدم.
فمن احتلال للأرض وسلب للمقدرات والخيرات إلى استعمار اقتصادي متطور متسلح بإيديولوجية متطورة، دون المساس بالأرض، وهو ما أجمعت التعاريف على تسميته (العولمة)، أي إكساب الشيء طابع العالمية، والتي اتخذت أشكالاً ووجوهاً متعددة اقتصادية وسياسية وفكرية، وحتى ثقافية, فالعولمة نظام يسعى، على المدى البعيد، إلى تذويب خصوصيات الشعوب، ونقلهم فكرياً إلى منحى تفرضه الرؤى الإمبريالية حيث تحدد لهم فيه نمط حياتهم وأطر تفكيرهم، ضمن قوالب جاهزة ما عليهم سوى إتباعها، ساحقة بذلك السمات الذاتية للشعوب، وهو ما تبلور في التعاطي مع عالمنا العربي بما يشبه الغزو الثقافي، من حيث فرص أفكار الغرب الإمبريالي وثقافته وحتى قيمة الاجتماعية والروحية. هذا الغزو الفكري الذي تسلل شيئاً فشيء إلى العقول العربية عبر دعوات مختلفة اتخذت أكثر من طابع، كان أولها مفهوم الحوار بكل ما تحتويه العبارة من دلالات فضفاضة، وبما تصرحه من إشكالات تستحق البحث والنظر، هذا الحوار الذي اكتسى بادئ ذي بدء اللباس الديني عبر دعوة الكنيسة الكاثوليكية في بداية الستينات من القرن الماضي إلى علاقة مع الديانات غير المسيحية، وهو ما سمي لاحقاً (بالحوار الإسلامي المسيحي)، ثم أخذ طابعاً إقليمياً فكان حوار الغرب مع الشرق، إلى أن تطور ووصل إلى المجال السياسي بمختلف جوانبه في صيغة هي (الحوار الأوربي - العربي) هذا الحوار الذي ركز على استغلال الهوة الحاصلة بين مستوى الثقافة لدينا، وما وصلت إليه الثقافة عموماً، بمفهومها العالمي، عبر طرحه لفكرة حوار الحضارات، في واجهة الفكرة النقيضة المتمثلة في صراع الحضارات مركزاً على رد الفعل الأولي الذي واجهت به الأمة العربية فكرة الحوار، عبر تقوقعها وانكماشها على الذات العربية بمفهومها التقليدي، ورفض الغرب بل والخوف من كل جديد وانتشار نظرية المؤامرة واحتلالها الصدارة في المفهوم النقدي العربي، وآليات تعاطيه مع كل ما يغدو من الغرب هذا التركيز الذي قلب الأمر عكس السابق وحوله إلى انفتاح مخيف على الغرب، وقبول ثقافته لحد بات معه كل ما لا يأتي من الغرب هو متخلف وموروث شعبي فاسد فانتشر المروجون للرؤى الاستهلاكية الغربية ودعاة الليبرالية الجديدة، واحتدم الصراع بين قيم الثقافة التقليدية القديمة، كما يسمونها وقيم الثقافة المعاصرة، وما تطرحه من مفهوم خاطئ للحداثة قائم على نسف وإلغاء الموروث السابق بالكامل، هذا الأمر الذي خلق أزمة طالت جوهر المفهوم الثقافي العربي ومفاعليه في الذات العربية.
فالإنسان العربي العادي والمهمش أضحى ضحية للمؤسسات الإعلامية المروجة للغرب، وما تطرحه من أفكار وقيم استهلاكية، وبين ما تربى ونشأ عليه من مفاهيم وقيم روحية وأخلاقية، أدت إلى تشوه في آلية الإدارة والفهم لديه في تناول الطروحات وتناول المواضيع المثارة في عالمنا والتي تدور من حوله، وعلى المستوى الرسمي تتمحور المشكلة بكون المؤسسات المعنية مسيسة بالغالب الأعم، وتتعاطى مع الأمور بحكم سياساتها وما يحقق مصالحها وأهدافها ضمن إجراءات الرقابة والإقصاء من حيث الحكم على الجديد الوافد أما بالشر المطلق، وبالتالي استبعاده بالكامل، أو بالخير المطلق، لكون النخبة تعيش الجزء الأكبر من الأزمة، فالمثقف العربي يعيش ما يشبه الاغتراب الثقافي، وأصبح انتماءه إلى الثقافة العربية يضعف في نفوس المثقفين العرب الذين لم يعودوا ينهلوا من قيم حضارتهم الأصيلة اللهم إلا من حيث اللغة وفنونها إلى حد وصل الأمر ليصير خللاً شاب مفهوم الهوية والانتماء الثقافي.
ومن هذا كله لابد أن نقول أن الثقافة العربية محتاجة اليوم إلى الإبداع، وتكييف هذا الإبداع مع قيمنا الحضارية وإلى وضع أسس ثابتة لتعاملنا مع ظاهرة الحداثة وما تعنيه وتطورات العصر ومتطلباته وإعطاء دور أكبر للمثقف الواعي في الحفاظ على الهوية الثقافية العربية، وتنميتها بما يتلائم مع روح العصر وقيمنا السامية في محاولة للتأكيد على حق التنوع الثقافي وتفاعل الثقافات وتمازجها المؤدي لتنمية التعاون الدولي في ميادين الحياة كافة بما يحقق صالح البشرية جمعاء.