منظمة الضمير الفلسطينية
لم تكن مصادفة أن يسقط ناجي العلي اغتيالاً في لندن، وهو من اختار منذ البداية الانحياز للفقراء والمحرومين والبسطاء. اختار أن يكون مرآة الواقع بكل ما في الحقيقة من صدق وقسوة، كيف لا وهو ابن شجرة الناصرة، سليل المسيح الناصري الذي قدّم جسده للصليب نداء للبشر. كيف لا وهو الشاهد والمبشر والشهيد. شاهد آلام التهجير والنكبة وذل المنفى، وظلم ذوي القربى، ولكنّه بشّر بحتميّة النصر، وبانتفاضة كانت نبوءته، فتحققت.. وهو الشهيد المحطم لكل الخطوط الحمر، الممتشق لريشة تفوح منها رائحة تراب الزيتون وحبرها دماء الشهداء.
ناجي العلي الفلسطيني الجنسية، الإنساني الموقف، العربي العمق، الأممي التفكير والانتماء الذي ابتعد عن السلطة وألقها ليبقى بين الشعب صاحب السلطة الحقيقية، فكان فلسطينياً بامتياز، استطاع أن يضخم القضية الفلسطينية لتعمّ العالم، ولتمتد فلسطينه من المحيط إلى الخليج، وأن يرقى بمفهوم ومضمون الانتماء الفلسطيني ليأخذ أشكالا قومية وإنسانية عامة، وفي خلال ذلك كله يقفز المخيم الذي ترى فيه ناجي وطوره ليكسبه مضمون محطة الانتظار للعودة.
ناجي العلي.. الفنان.. المبدع.. الأسطورة الخالدة، لأنه اعتمد في رسمه للكاريكاتير على تبسيط الشكل، واختصار الكثير من عناصره لصالح الأهم، وهو جوهر الفكرة، مقدماً المفارقات الكاريكاتورية بكثير من السخرية المصبوغة بالألم، في محاولة منه لترميم الوعي العربي والارتقاء به.
ويتجلى إبداعه الكبير في نجاحه بنقل خشبة المسرح إلى صفحات الجرائد، من خلال ابتكار الشخصيات المختلفة الخارجة من وحل الواقع، بجزئياته وتفاصيله كلها، وبتناوله هذه الشخصيات في محاور وصور متعددة متلاحقة ارتقى بعضها إلى شكل اللوحة المسرحية ضمن شخصية «حنظلة»، وهو أهمها والتي صارت توقيعه الشخصي إلى شخصية «أبو الهم» وما يرمز إليه من واقع الإنسان الفلسطيني، وتطوره من اللاجئ إلى المقاتل، ثم المقاتل المشرد في المنافي بعد بيروت، وتناوله للمرأة رمز الخصب والعطاء، وصولاً لتشبيهه لها بالأرض وشخصيات «عرب النفط» أو «عرب أمريكا»، كما سمّاهم وكروشهم الكبيرة وملامحهم الهزلية، وفي كل ذلك لا ينفك يقدم لنا الشعار السياسي والموقف الحق الراسخ، فكيف ننسى حين كتب ورسم الفلسطيني على الصليب وهو يصرخ: «أحد.. أحد.. كامل التراب الوطني الفلسطيني».. هذه العبارة التي صهرت في مضمونها كل برامج التحرير وإيديولوجياتها، وما أروعه حين كان صوته يعلو دائماً بالرفض للمخططات والانتهاكات الخطيرة للشعب العربي عموماً، وللقضية الفلسطينية خصوصاً، كرسمه عن القرار (242)، أو عند أعداء الثورة الحقيقيين المنتفعين منها، أو نقده اللاذع لمواقف وأفعال النظام الرسمي العربي، وهو الذي لم يعرف في حياته خطاً أحمر واحداً، إلا خط التنازل عن الثوابت وحقوق الفقراء.
خاطبنا دائماً ببراءة طفل في العاشرة عن عمره تمر الأعوام ولا يكبر، ولا شغل له إلا أن يحدث الناس ويوجه بوصلتهم إلى الحق.. إلى فلسطين.. إلى الأمل بالنصر القادم، هذه الشخصية التي قال عنها ناجي إنها ستستمر بعد وفاته، وهذا ما حدث ويحدث، حتى غدا حنظلة رمز لشعب الخيام، بل لكل المقهورين والمحرومين في العالم.
ناجي العلي لا أجد في الختام ما أقوله رثاءً لرجل قهر كاتم الصوت، وانتصر حتى وهو في قبره سوى ما قاله له أديبنا الكبير الياس خوري: «صار الرثاء سهلاً وحزيناً وبلا جدوى لذلك لم نجد لناجي رثاء يليق بحياته».