واحد وعشرون عاماً.. ولم يكبر حنظلة ناجي العلي في ذكرى بقائه.. ورحيل المدّعين!
أحسب أن ناجي العلي لم يعطِ بالاً ذات يوم للمرثيات، وأنه كان إذا فتح صفحة في صحيفة، ووقعت عيناه على كلمات تسهب في تعداد مناقب أحد الراحلين، يطلق ابتسامة سرية ساخرة، ويلتفت لأخرى تتحدث عن هموم وشؤون الأحياء، أو الموشكين على الموت..
أكاد أراه اليوم، واقفاً ويداه متشابكتان خلف ظهره العاري، معرضاً بغير اكتراث عن رثائيات موسمية ما فتئت تملأ الصحف دون كلل أو شعور بالاكتفاء، تتواتر في مواعيد سنوية منذ واحد وعشرين عاماً، هي عمر غيابه القسري.
أعتقد على وجه الشبهة واجتماع القرائن، أن «أبا حنظلة» لم يكن يملك الوقت لممارسة الحزن، فهو باب لو فتح مصاريعه على تضاريس روحه، لما كان ليتسنى له فعل شيء سوى البكاء.. كان مصراً أن يعتصر ألمه رسوماً تتمسك بجدائل الحياة، لا تلوّح بأمل كاذب، أو تتمسك بأوهام مراوغة، كما لا تنهار تحت ضربات اللحظات الغادرة، بل تختزل الواقع بكل تفاصيله المتباينة وأوجاعه المتفاقمة فناً بسيطاً، لكنه أحدُّ من السيف، مع يقين بنصر آت على طريق معبدة بالدم، وظل حتى الرصاصة الصامتة التي اخترقت فيزياءه حاملاً حقيقياً لهمّ شعب كثر المدّعون باسمه، والكاذبون باسمه، والمتاجرون باسمه، ولم يحمل رايته الكفاحية وأحلامه الكبرى على وجه الحقيقة إلا سواده الملقى في المخيمات..
مهموماً بمستقبل لا يعد بالكثير لشعب نصفه مشرد، ونصفه محاصر، وبعمر عريض قصير، عاش ناجي العلي صراعاً دائماً مع مقولة الفن، وتحمل وهو على قيد النضال غمز النقاد وانتقاصهم من موهبته، وأجزم أنه لو أراد السعي وراء المعايير التي تجعله من وجهة نظر معظمهم فناناً عظيماً، لما بذل في هذا السبيل لهاثاً، ولكنه كان يدرك جيداً معنى الالتزام في عالم محكوم بالجنون والفردية والأنانية، فآثر الأدوات البسيطة واللغة البسيطة والمضامين الناصعة، على الفتوحات الفنية العريضة، وأجّل هواجسه الإبداعية الذاتية الكامنة لوقت كان موقناً أنه ربما لن يأتي على الإطلاق..
في أواسط السبعينات من القرن الماضي وحتى قبيل كاتم الصوت، آن نضوج تجربة ناجي العلي وامتلاكها كامل أدواتها ومضامينها، كان نضال الشعب الفلسطيني في الشتات، قد وصل إلى ذروة سخائه الكفاحي بعد ثلاثة عقود تلت النكبة من المرارات والخيبات والمؤامرات والمذابح والهزائم الخاطفة، وكان الكلاشينكوف الذي أمسك بوصلته جيداً، قد أصبح الأمل الأوحد للشعب الفلسطيني المتناثر في الشتات، لكن هذه الفترة ذاتها شهدت تحول الدعوات التسووية من السرية إلى العلنية معززة بـ«فتوحات كامب ديفيد»، وبدأ الحديث عن «الحل السلمي» يوازي كل عملية استشهادية، فوقف حنظلة فلسطين المتمرد معززاً بـ«لاءات الشعب» في وجه البراغماتيين والكثير من العرابين و«المثقفين العصريين»، ومعظم الزعماء العرب، وكان الشاهد والمبشر والنذير، وخاض حرباً طاحنة على أربع جبهات، ضد بعض «الإخوة» وأغلب «الأشقاء»، وتحالف الأعداء، والمستغلين، وكان يعلم أن رصاصة ما ستصوب نحوه من جهة ما، لكنه لم يهادن، وظل يشخص نحو أفق أوله فلسطين.. وآخره فلسطين..
توقف قلب المتمرد في مرحلة انعطافية.. مرحلة إغلاق كل المنافذ على السلاح المقاوم، وقبل أيام معدودات من اندلاع انتفاضة الداخل.. ليكون عنواناً لمرحلتين نضاليتين متعاقبتين لشعب مايزال يرفض الاندثار..
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.