تراث الفكر الإسلامي من التأويل إلى التحليل

بإمكاننا أن نطلق على الحضارة الإسلامية على الرغم من كل تنوعها وغناها صفة «حضارة النص»، فعبر سيرورتها التاريخية الطويلة بمراحلها وعصورها المختلفة، ارتبطت هذه الحضارة دائماً بنصٍ مؤسس شغل مكانة المركز فيها، وشكَّل نقطة ثبات وحضور انطلقت منها أو دارت حولها  أو تصارعت عليها مختلف التيارات والاتجاهات الفكرية، ولهذا يمكننا أن نفهم المكانة الكبيرة التي شغلها التأويل في هذه الحضارة، الذي طبع بطابعه معظم النشاطات والاسهامات الفكرية التي بحثت دائماً عن سندٍ لها في النص بعد تأويله، وهذا لاينطبق فقط على العلوم النقلية والدينية، بل يشمل أيضاً أكثر العلوم العقلية تطوراً وانفتاحاً، فكثيراً ما سخرت هذه العلوم العقل في عملية التأويل، وأعملته في النصوص لتطويعها وتكييفها مع حاجاتها وتطلعاتها، مما جعله يهدر الكثير من طاقاته وقدراته في المماحكات النصوصية، ويغرق نفسه في دقائق اللغة وألاعيب الدلالة. هكذا خلَّف لنا تاريخنا تراثاً تأويلياً هائلاً مايزال يضغط حتى اليوم على حياتنا الثقافية.

إلا أن حضارة النص قد عرفت بوادر هامة لتجاوز ارتباطها الدائم بالتأويل، ولتجاوز المساحات التي تتركها النصوص (حتى بتأويلاتها الفضفاضة، والمتسمة بأكثر درجات التسامح) لحركة الفكر، إلى فضاءات أكثر حريةً واتساعاً. ومن أهم تلك البوادر بداية ظهور النزعة التجريبية في العلوم الطبيعية، وهي النزعة التي بلغت أوج تبلورها في التشكيلة المعرفية الإسلامية على يد ابن الهيثم، في دراساته التجريبية في علم البصريات، هذا فضلاً عن المناهج التجريبية التي حاول جابر بن حيان وابن النفيس وغيرهما من العلماء تطبيقها في مجالي الكيمياء والطب.

وعلى الرغم من أهمية هذا التطور المنهجي في مجال العلوم الطبيعية، فليس بإمكاننا أن نعتبره خرقاً أساسياً لآليات وعادات التفكير وإنتاج المعرفة الإسلامية، ذلك لأن العلوم الطبيعية كانت متحررة نسبياً من سلطة النص منذ نشوئها وبحكم طبيعتها بالذات، باعتبارها ميادين فكرية حديثة وناشئة لم تكن النصوص قد قالت فيها كلمتها. ولم تكن تلك العلوم تستطيع أن تعمم منهجياتها وأساليبها (والتي كانت لا تزال في بدايات طور النشوء والتكون) على ميادين دراسة الإنسان والمجتمع والوجود، وهي الميادين التي حدد دراستها التوجه العام للنص المقدس، الذي طرح الكثير من التحديدات والضوابط بشأنها، فكان على المفكرين المجددين في تلك الميادين أن يوسعوا ويلطفوا هذه الضوابط والتحديدات بالتأويل.

وبالتالي، فإذا كان لنا أن نتحدث عن خرق منهجي بنيوي في آليات إنتاج المعرفة الإسلامية، فعلينا أن نبحث عنه في الفكر الفلسفي الإسلامي، باعتبار أن الفلسفة _وفق الشروط المعرفية للقرون الوسطى_ هي العلم الشامل لكل علوم الإنسان والمجتمع.

لقد اضطر الفلاسفة المسلمون دائماً إلى استحداث أساليب جديدة في التأويل، لتبرير المنظومات الفكرية الجديدة التي حاولوا إدخالها إلى الثقافة الإسلامية، فلم يستطيعوا بالتالي الخروج من قيود النص وحتمية التأويل. إلا أن الفلسفة الإسلامية استطاعت مع ابن رشد أن تحقق إنجازاً منهجياً كبيراً، كان له الفضل في تمهيد الطريق للثورة المعرفية القادمة، ويتمثل هذا الإنجاز بالفصل المنهجي الذي أحدثه ابن رشد بين ميداني الحكمة والشريعة، أي بين الفلسفة بمجالاتها وميادينها المتعددة، وبين الدين بنصوصه، والتأويلات الكثيرة لهذه النصوص، مع الافتراض بعدم وجود تعارض بين هذين الميدانين، وهكذا فقد اكتسب البحث الفلسفي لأول مرة حريةً نسبية، مكَّنته من تخفيف اعتماده الكبير على التأويل، وأعطته شرعيةً مستمدة من العقل، الذي لا يمكن أن يتصادم مع مقاصد الشريعة حسب التعبير الرشدي، ورغم ذلك فإن ابن رشد لم يستطع التخلص نهائياً من ضرورة التأويل، فقد أكَّد على أهميته في حل التناقض الممكن من الناحية الشكلية بين العقل والنص.  

وجاءت الثورة المنهجية والمعرفية الكبرى على يد ابن خلدون، الذي استطاع أن يؤسس لعلم اجتماعي وإنساني إسلامي مستقل عن أية تبعية للنص، أو ضرورة للتأويل، ويقوم على دراسة معطيات النشاط الإنساني الدنيوي، بعد تحديدها وفقاً لمستلزمات العقل العلمي التحليلي فقط، وهكذا فقد نجح ابن خلدون في نقل الفكر العربي من التأويل إلى التحليل والتفسير، وحقق ما يمكن تسميته بلغة العلوم الإنسانية المختصة بـ« القطيعة الأبستمولوجية» مع الآليات السابقة لإنتاج المعرفة الإسلامية، وأوجد الإمكانية الحقيقية لقيام علوم إسلامية تنبع من الإنسان وتصب فيه.

كان يمكن للثورة المعرفية التي أحدثها ابن خلدون أن تستمر وتتواصل، وان تحقق المزيد من الإنجازات والفتوحات، لو لم تكن تلك الثورة قد جاءت متأخرة وفي غير وقتها، فهي قد أتت في الزمن الذي بدأت فيه الحضارة الإسلامية بانحلالها وانحدارها السريع، فشكلت آخر ومضة من ومضات هذه الحضارة، التي نست بسرعة كل انجازاتها الفكرية وثوراتها المعرفية.   

 ■ محمد سامي الكيال

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

آخر تعديل على الأربعاء, 14 كانون1/ديسمبر 2016 14:46