كمقهى صغير هو الحبُّ
الصورة الأبرز لشعرية درويش هي صورته كشاعر حب، وشاعر حبّ عملاق لا يقلّ أهمية، في هذا الباب، عن سواه، من شعراء الحب الكبار في العالم، لا بل إنه يحجز لنفسه المكان المتقدم، حتى يمكننا القول إن قصيدة الحب هي درويش الحقيقي، ذلك الشخص المتبرم من حصره في أطر حديدية: (شاعر الأرض)، (شاعر المقاومة)... مع أنه قدم للمعنيين السابقين الكثير الكثير.
الحب في قاموس محمود درويش «مثل الموت وعد لايرد ولا يزول»، هو كتبها في «شتاء ريتا»، وظل يكتب فيه وله ما يختصر تجارب عشاق الأرض جميعاً، وأصواتهم وحكاياتهم، فقصيدة الحب الدرويشية عملت على مزج ثقافة الحب منذ الأساطير، بمختلف جغرافياتها، وحتى كبرى نصوصه، بمختلف لغاته، ليغرد، في النهاية، صوت العاشق العربي المعاصر، وقد جعله عاشقاً كونياً، تماماً كما فعل على صعيد كتابة النصّ الوطنيّ. وهذا العاشق العربي الذي نحته، وصوره، وعمل على تفصيله جزءاً فجزءاً، هو الإنسان، الإنسان الذي لا يكتمل وجوده، ولا يتم معناه إلا بالمرأة ومعها، فمن ينسى قصائده هذه على مدار تجربته: «تلك صورتها...»، «يطير الحمام»، «شتاء ريتا»... وذروة هذا المنحى التي تكللت في ديوانه «سرير الغريبة»، إذاً فعلاً، جعل من العاشق الذي تلبسه كل عشاق العالم: روميو، سليمان، قيس المجنون، جميل بن معمر...
صاغ محمود درويش حياة يومية للعشاق، كتب فيها لهفاتهم، وخيباتهم، جنونهم ومجونهم: «أحب من الليل أوله عندما تأتيان معاً/ يداً بيد، رويداً رويداً تضماني مقطعاً مقطعاً». ولعل قصائد الانتظار الشهيرة: درس من كاماسوترا، في الانتظار، لم تأتِ.. هي صورة الإنسان الناقص في انتظار الآخر/ الحبيب الذي يكمّله ويرمّمه ويطوّبه إنساناً كاملاً. هي المرآة التي حرص على أن يبقيها مصقولة أمامنا، كي نبحث عن هذا الحب، بوصفنا بشراً ناقصين.. وكي نبحث عنه بوصفنا غرباء، وحده من يمنح وجودنا المعطوب معنى المعنى..