عتاب لبّاد عتاب لبّاد

أُصدِّقُ موهبتي في اكتشاف الألم

انتهت لعبة النرد بموت درويش الذي كان يتغلب على الموت أحياناً بدقائق فقط، وليعترف بنهاية آخر قصيدة «إن النهاية أقوى».

رحل رائد المشروع الثقافي الحديث وكاتب إعلان استقلال فلسطين. الناطق الرسمي باسم الشهداء، محمود درويش كان سفيراً يجتاز كل الحدود والاتفاقيات والتسويات وجدران الفصل والاقتتال الداخلي معلياً، فقط، شأن الأرض.

خذلك الموت هذه المرة كما خذل دموعنا ودموع أمهات الشهداء اللواتي بكلماتك تعالين على الألم.

في شرايين قلبك المتعب تدفقت نسوغ أشعار الأرض والحب والأم والمقاومة وفلسطين، كنت حجراً يطارد المارين فوق الكلمات العابرة، ستبقى كلماتك شبحا يلاحق كل من اعتقلوك ونفوك وأحرقوا قصائدك، هزمتهم جميعاً بأزهار لوزك وأوراق زيتونك وهويتك وكرملك الفلسطيني، ولكن كيف للموت أن يغافلك هذه المرة؟ لم لم تهزمه هو أيضاً هذه المرة؟ أم أنك قررت أن ترتاح وتترك خلفك كلماتك ذكرى لن تمحى من الذاكرة .. فجأة امتلأت الشاشة بصورتك المحببة وصوتك الأليف، يقرأ لنا الشعر كأن شيئاً لم يكن، وفي توقيت خارج الزمن، انفصلت روحك عن الجسد وقالت روح الشاعر المحلقة هناك: «ولنذهبنّ معاً أنا وأنت في مسارين: أنت إلى حياة ثانية، وعدتك بها اللغة، وأنا إلى موعد أرجأته أكثر من مرّة، مع موت وعدته بكأس نبيذ أحمر في إحدى القصائد».

تلك النهاية التي كان يستشعرها محمود، وينتظرها، برهبة أحياناً وبسخرية أحياناً، سخرية الشاعر اللامبالي إلا بالوطن وما سيأتي كله عادي إن عاد الوطن، واضعاً حداً لتجوالك بين منفى وآخر، حالماً بوطن بات مستحيلاً..«كلما طال منفى الشاعر توطدت إقامته في اللغة».

محمود درويش هو المنفيّ بامتياز، هو الوجه الحقيقي لفلسطين، انتظر العودة ولم يعد، انتظر الوطن فلم يأته. فقرر أن يرتاح بعد أن أنهكه أن يرى دماً فلسطينياً بسلاح فلسطيني، لا نعرف لمَ لمْ يعشق عمره هذه المرة، ويخجل من دمع أمه، ومن دموعنا؟ أم أن دموع أمه الأولى فلسطين مزقت قلبه وتلاشى الحلم، وتلاشى هو.. ولم يعط عمره فرصة أخرى لترميم الحكاية هو الذي قال:«أنزل ههنا والآن عن كتفيك قبرك واعط عمرك فرصة أخرى لترميم الحكاية»..

أو ربما هي قصيدة أخرى يريد أن يكتبها مستلهماً من دموعنا خطوطها الأولى أم هي خطة لكتابة جدارية أخرى يمررها لنا من على جدار السماء. كلها احتمالات وضعنا أمامها ملك الاحتمالات وملك الجدليات.

اجتاز درويش على طريق الشعر دروباً متعرّجة تختزل مسار الذائقة الشعريّة العربيّة منذ ستينيات القرن الماضي وحتّى يومنا الراهن. بين «بطاقة هويّة» و«لعبة نرد»..

رحل إذاً شاعر فلسطين الأول، وابنها البار حاملا معه حلم العودة تاركاً لنا الذهول ومرارة الفراق، دون أن يكتب قصيدة النصر، ومن كان أجدر أن يكتبها غيره.

آخر تعديل على الثلاثاء, 23 آب/أغسطس 2016 11:47