تراث مشهدنا الختامي الأخير
قليلةٌ هي اللحظات والمشاهد التاريخية التي يتكثف فيها الحدث ليحمل من الدلالات والمعاني ما يمكِّنه من التعبير عن صيرورة تاريخية بأكملها، وهو بتعبيره عن تلك الصيرورة التي حدثت في الماضي قادر على ملامسة الحاضر والمستقبل، والحوار معهما، وتبليغهما رسالة عابرة للأجيال. المشهد-الحدث الذي سنتناوله هنا مأخوذ من كتاب «الفتوحات المكِّية»، وراويه هو مؤلف الكتاب الشيخ محي الدين بن عربي، القطب الصوفي الأكبر في تاريخ الإسلام، ويجمل الحدث في تفاصيله وشخصياته قطاعاً هاماً من بنية الحضارة العربية الإسلامية في مرحلة أفولها وتدهورها.
نحن الآن في مدينة مراكش، في عام 595هـ، حيث يقف ابن عربي الشاب بجوار عدد من كبار شخصيات عصره، ليشهد عملية نقل جثمان الفيلسوف أبي الوليد بن رشد من مراكش إلى مثواه الأخير في قرطبة، كان ذلك هو اللقاء الأخير بين الرجلين اللذين مثلا إثنتين من أعلى القمم الفكرية لحضارتهما، فقد كان فكر ابن رشد ذروة العقلانية الإسلامية، والفلسفة العربية ذات الطابع الأرسطي الصافي، بمعرفتها العقلانية البرهانية. في حين كان مقدراً لابن عربي أن يصبح قطب العرفان الصوفي، وفلسفة الإشراق ووحدة الوجود، بمعرفتها الحدسية الكشفية. ورغم مايبدو من تعارض بين مذهبي الرجلين ومناهجهما المعرفية، فقد كانا يعبِّران عن ذلك الجانب من الثقافة الإسلامية الذي تحرر من عبودية حرفية النصوص المقدسة، وتأويلها السلفي، وكوَّن نظرةً جديدةً للوجود والإنسان والمجتمع، عن طريق العمل على توسيع دلالات لغة النصوص المؤسسة والمقدسة، لتسبغ الشرعية على الاستبناءات الثقافية التي ظهرت أو تطورت في سياقه.
إلى جانب ابن عربي الذي كان يراقب المشهد بصمت، وقف الفقيه محمد بن جبير، وهو من جملة الفقهاء السلفيين الذين ارتفع شأنهم في الدولة الموحدية، في الأندلس والمغرب، بعد أن ازداد تعرضها لأخطار حرب الاسترداد الإسبانية، وبجواره عمر بن السراج، وهو أحد ناسخي الكتب المعروفين، وقد لفت انتباه هذا الأخير مشهد الجمل الذي كان يحمل تابوت ابن رشد، فقد استقر التابوت على أحد جانبي الجمل، وعلى الجانب الآخر استقر صندوق كبير يحوي كتب ابن رشد، ويساوي التابوت في الوزن، فقال الناسخ: «ألا تنظرون إلى من يعادل الإمام ابن رشد في مركوبه؟ هذا الإمام وهذه أعماله»، فوافقه الفقيه ابن جبير على ذلك وقال بلهجة وعظية لاتخلو من شماتة: «يا ولدي، نعمَ ما نظرت، لافض فوك»، هكذا كان الحضور الرمزي لفكر ابن رشد، المتمثل بكتبه، يوازي حضور جسده الميت، وكأن الناسخ والفقيه لا يحضران جنازة ابن رشد الجسدية فقط، بل يحضران جنازة فكره أيضاً، وما مثله ذلك الفكر في الحضارة الإسلامية. أما ابن عربي فقد علق على كل هذا في كتابه ببيت شعر وحيد ولكنه بالغ الدلالة:
هذا الإمـــــام وهـذه أعـمـالــــه
يا ليت شعري، هل أتت آماله؟
لقد كانت الجنازة التي حملت رفاة ابن رشد من جنوب البحر المتوسط إلى شماله، جنازة الفكر الفلسفي في الإسلام، فابن رشد الذي تعرض للنفي والتشريد، واحرقت كتبه ومنع تداولها، يعود الآن ميتاً إلى وطنه، الذي سيطر عليه الفكر السلفي. وكانت تلك الجنازة أيضاً علامةً أولى على انتقال الفكر الفلسفي إلى شمال البحر المتوسط، أي إلى «الغرب» حيث ازدهرت فلسفة ابن رشد وحققت أكبر انتصاراتها، ولعل هذا هو الجواب على تساؤل ابن عربي الحائر: «يا ليت شعري، هل أتت آماله؟»، نعم لقد أتت آماله، ولكن خارج موطنه وسياقه الحضاري.
لقد كان ذلك المشهد هو آخر ما رآه ابن عربي في المغرب والاندلس، قبل أن يقوم بهجرته النهائية إلى المشرق العربي، وقد ثبته في كتابه الأهم «الفتوحات المكِّية» كأنه ينعي لنا الأندلس، بكل حضارتها وتراثها الغني، ويبرر لنا هجره لها بعد ان انقطع آخر خيط كان يربطه بها، وبالفعل فإن هذا المشهد يستحق أن ينظر إليه كمشهد ختامي أخير لفترة الإزدهار الحضاري الإسلامي، فهو يحوي في شخوصه وأحداثه ترميزاً إحتدامياً لمفردات تلك المرحلة، فنرى فيه الفيلسوف (كجثة هامدة) والفقيه السلفي (كرجل منتصر وشامت) والمتصوف (كذات حائرة، تنشد الهجرة والرحيل).
■ محمد سامي الكيال
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.