ربما ..! العراق الأغنية
لنتحدّث عن الأغاني العراقية، عن ذلك الأسى المحموم الذي بثته حناجر العمالقة الذين غنوا بلاد ما بين النهرين، من ناظم الغزالي إلى سعد توفيق البغدادي إلى سعد البياتي وسعدي الحلي والياس خضر وفؤاد سالم.. وحتى سعدون جابر بدعة الزمان.. لنتحدّث عن تلك الأصوات التي لا تستطيع حيالها إلا الخشوع، ولنتذكّر جيّداً أن العراق نفسه تحوّل معهم إلى أغنية وجد وانتظار.
سارت الأغنية العراقية منذ بدايات القرن العشرين في (نهرين) أساسيين يحاكيان دجلة والفرات، نهر الغناء الريفي، ونهر المقام. ومعروف أن فناني الغناء، وعلى رأسهم حضيري أبو عزيز، وفناني المقام وفي مقدمتهم محمد القبانجي ويوسف عمر، كانوا أساس الانطلاق نحو أغنية عراقية مكتملة الهوية لحناً وكلمة وصوتاً، أغنية تخص العراق وتعبر عنه، أغنية علامة دالة على روح المكان.
وسوى التشكيلات الأولى التي أشرنا إليها ولا تزال مستمرة، جاءت المكونات المختلفة من أطوار الأبوذية (شكل غنائي عراقي يشبه العتابا) والمقامات والألحان الفلكلورية لتنصهر في بوتقة واحدة، وتشكّل هوية الأغنية العراقية المعروفة، وقد كان للعملاق ناظم الغزالي اليد الطولى في ذلك، فالرجل الذي كان دارساً مجتهداً للموسيقى ومؤرخاً لها استطاع أن يكون عروة وثقى وحلقة وصل شديدة الأهمية بين مرحلتين مفصليتين، لذا نالت أغانيه شهرة عربية كبيرة، وراحت ترددها الأصقاع كـ«طالعة من بيت أبوها» و«على جسر المسيب»، إنه الأب الحقيقي لجيل السبعينيات، الجيل الذي طعّم هذه الجدارية الغنائية بنفائس منقطعة النظير.
رغم كل ذلك لا تزال هذه القارة الغنائية غير مكتشفة عربيّاً لصعوبة التواصل مع اللهجة، ولأن الفنانين العراقيين لم تُهيّئ لهم الظروف السياسية بيئةً سليمةً لتصل تجاربهم بالشكل الذي ينبغي، ومع ما آلت إليه التحولات العالمية من نتائج أنزلت الذوق إلى الحضيض باتت لاجئةً لدى «السميعة» بوصفهم الملاذ الأخير.