فواز العاسمي فواز العاسمي

مرضى بـ«الكساندرائية»

ليس العنوان غريباً بل نحن الغرباء في هذا العالم، وبقدر تعاستنا وضياعنا واضمحلالنا نجني من ترهات الآخر..

الكساندرائية مرض اجتماعي أسبابه تاريخية ثقافية بالدرجة الأولى، ثم سياسية اقتصادية ثانياً، يصيب المجتمعات المهزومة من الداخل المتشبثة بالتاريخ الغابر ولا تنظر إلى ما بعد أرنبة أنفها، هذه الأمم التي تنحدر ذراعا كل ثانية في الهاوية بينما غيرها ينطلق إلى العلا فرسخاً كل يوم، كما يصيب المجتمعات الناكسة بفعل تغلغل الخرافة واللاجدوى في ذاتها لتصبح بفعل ما ذكرت مجتمعات رجراجة لا تعرف لكيانها قواما ولا لذاتها مستقرا، من أهم أعراض هذا المرض: تجاهل الأمة للواقع وإنكارها له لتجنب دخول الحقيقة في حيز الشعور أي الهرب من واقع مؤلم إلى آخر مزيف، تجليات هذا المرض: لم تنم نساء حينا في تلك الأمسية المضنية للبطلة نور المخطوفة على يد (الوغد) عابدين ما استدعى أحد الشيوخ لإصدار فتوى مفادها: أن كل امرأة شاهدت محاولة اغتصاب عابدين لنور صيام ثلاثة أيام كفارة ما اقترفت عيناها!! تجلًّ آخر لهذا المرض، أن شوارع دمشق خلت بنفسها عند دخول الغزاة المغول مرةً وعندما يدخل وقت الإفطار في رمضان. أما ما نسف هذه القاعدة فهو مسلسل كاساندرا المكسيكي الذي اشتُقَّ اسم المرض منه.. لعلي لا أبالغ إن قلت: إن بساط المعرفة قد سُحب وطار مع الريح لنصحو على مجد غابر ما زلنا نكابر على بقائه نبراسا ومرشدا لحضورنا المعرفي وثقلنا الإنساني بينما الحقيقة المرة أن أهم ما ساعد على انتشار المرض المذكور هو تلاشي قيمة العقل في ثقافتنا (الدينية والقومية حتى) لنصبح سدنة معبئين بالرطانة وانحسار العقلنة أمام جبروت الماضي متمثلا بنصوصه التي تأخذ منحى القانون الفيزيائي الأصم..

كل أمم الأرض تجتهد في عولمة ثقافتها وتعمل على التلاقح الثقافي المتبادل فيما بينها، فهي فاعلة بدرجة ما ومنفعلة أيضا بحكم سيطرة الغول الأمريكي، إلا أمتنا فهي منفعلة غالباً،  لطالما سمعت وقرأت عن الأمركة والفرنسة والعثملة فمتى نسمع عن (العربنة) مثلاً أي تأثير ثقافتنا وعاداتنا وقيمنا على مجتمع من المجتمعات ولتكن هذه المجتمعات في إفريقيا جنوب الصحراء مثلا.. قمة فتوحاتنا في القرن العشرين تمثلت بانتشار المطبخ اللبناني وأسياخ الشاورما السورية في شوارع بودابست وكوبنهاجن..!! إن القارىء المتبصر لتاريخنا يرى أن انتشار ثقافتنا في الماضي كان بسبب سيطرة العقل النقدي على مباحث أرباب صنعة المعرفة وبقوة الفكرة أيضا، فلا نخلط بين العقيدة وقوتها من جهة وبين انتشار الإسلام والحضارة الإسلامية العربية في أصقاع الدنيا من جهة ثانية كما نخلط بين جاهلية ما قبل الإسلام (والتي ليست كلها سوءاً) والجاهلية المعاصرة؟..

آخر تعديل على الإثنين, 05 كانون1/ديسمبر 2016 23:51