السينما إذ تودع يوسفها
هل رحل شاهين حقا؟
لم ننه نقاشنا بعد حول فيلمه الأخير «هي فوضى»، سنحتفظ بآرائنا واعجابنا وسخطنا لمناسبات أخرى.
لا أعتقد أن شاهين يبتسم الآن جراء ارتباكنا فهذه ليست عادته فبينما ينشغل الآخرون بالخلاف على فيلم من أفلامه يمضي هو نحو فيلم جديد وفكرة جديدة أو قديمة تشغل باله وتؤرق تفكيره.
نتفق ونختلف كثيرا على أفلام شاهين، أجيال عديدة تابعت سينماه من زوايا نظر مختلفة لكنك قلما تجد أحداً ليس له موقف من هذا التاريخ السينمائي وربما هنا تتبدى إحدى جوانب عظمة شاهين.
عاش جو (كما يحب أن يناديه المقربون منه) السينما كحياة يومية، نبض انفعالاته الحياتية يبدو واضحا في كل أفلامه، لا ينتظر نتائج الحوارات حتى يبدي رأيه على الأغلب مواقفه ورؤاه السينمائية جزء من المشكلة وحلها.
بدأ هجوم النقاد على شاهين مبكراً مع فيلمه باب الحديد 1958، واتهم بأنه يقدم سينما تجارية لكن 37 سنة بعدها كانت كافية لإعادة الاعتبار لهذا الفيلم ولمخرجه وأضحى باب الحديد علامة سينمائية مسجلة بامتياز.
رغم أن الستينيات حملت بعض الأفلام التجارية لشاهين إلا أنه قدم في هذه المرحلة ثلاثة من أكثر أفلامه شهرة «الناصر صلاح الدين» و«بياع الخواتم» مع فيروز والرحابنة، وفيلمه الأجمل والأكثر رسوخا في الذاكرة «الأرض«، عن رواية بالاسم نفسه لعبد الرحمن الشرقاوي، وبرأيي الشخصي حمل هذا الفيلم المغرق في المحلية صاحبه على أول درجة في العالمية فمشهد أبو سويلم محمود المليجي مسحولا من مأمور الشرطة، وأظافره مغروسة في الأرض حرثت هذه الصورة الرائعة أرض السينما العربية، وقلبت مفاهيمها مبشرة بنبت جديد.
لم يحتج شاهين إلى وقت ليرصد تحولات المجتمع المصري والعربي بعد النكسة فاتجهت سينماه نحو ما يراه لب المشكلة وأصل البلاء القمع الذي تمارسه الأنظمة على شعوبها والتغير الاجتماعي الذي أصاب قيم المجتمع وأخلاقه فكانت أفلام : «الأرض» و«الاختيار» و«العصفور» من مرحلة السبعينات شهادات حية لما أصاب المجتمع العربي .
في العشرين سنة التالية ـ أقولها ببساطة من يتحدث عن أيام أو شهورـ امتلأ يوسف شاهين بهواجسه الذاتية عن الفرد «الجماعة»وعلاقته بالأخر، عن الإنسان الذات، وأثر سيرته الشخصية على كل ما حوله، فأنجز سلسلة أفلام تعتبر منعطفات هامة في تاريخه وتاريخ السينما العربية من «عودة الابن الضال»، إلى «اليوم السادس»، عن رواية اندريه شديد إلى «وداعا بونابرت» وصولا لسيرته الذاتية في ثلاثيته الشهيرة «حدوتة مصرية»، «إسكندرية ليه»، «إسكندرية كمان وكمان»، وفيها قدم رؤية جديدة جوهرها المكاشفة الصريحة لمفهوم السيرة في السينما وفتحت عليه النيران الصديقة والعدوة لجرأتها في تناول الذات، أتبعها بعد سنوات طويلة بجزء رابع رائع «سكندريه نيويورك»
في التسعينات بدأ شاهين يرفع نبرة صراعه مع القديم والأصولي فقدم «المهاجر» كقراءة مختلفة لتاريخ التابوات الدينية التي وجهت سهام الأصولية نحوه كخارج عن الجماعة، وخائض في المحرم، واتبعه بنموذج تعايشي مع الفكر الآخر يمثله ابن رشد في فيلم «المصير» كاشفا عن تحالف الأصولية مع قوى الشر المعولمة في «الآخر»
عرف عن شاهين شغفه بالأفلام الموسيقية فلا يكاد يخلو فيلم من أفلامه من مطرب أو لوحة استعراضية راقصة بعضها خدمه والبقية سقط متاع فلم يحقق فيلمه الميوزيكال «سكوت ح نصور» النجاح المرتجى مثل سابقه «بياع الخواتم».
مضى يوسف شاهين دون أن يحقق رغبته الملحة والقديمة بانجاز فيلم حلم به كثيرا عن هاملت اسكندراني.. يوسف شاهين أنصفته جائزة (كان) الخمسينية كما أنصف نفسه مع مؤيدي أفلامه ومعارضيها.