لمناسبة هبوب أزياء الصيف واشتعال الجمال
أن تقطن في الصالحية، هذا يعني، أنك في قلب جحيم الجمال. هنا في هذا الشارع المخصص للمشاة، ستصادف عاصمة مختزلة للوجوه، والأجساد. فالحياة هنا، واجهة بلورية لكل أنواع البضائع والسلع، من الأحذية المستوردة إلى أرقى ماركات سراويل الجينز.
سوف تقودك مخيلتك إلى تشكيل صور أخرى،خلال مشوارك اليومي. وستصادف عرضاً متنقلاً للأزياء. يعلّق صديق مصري، يزور دمشق للمرة الأولى، بأسى وذهول على «وحشية» جمال النساء في دمشق، ويستغرب من اللامبالاة التي أبديها له تجاه موضوع حيوي بالنسبة إليه. ربما أشعر بغرور من نوع ما، وكأن كل من تعبر في الشارع، تخصني وحدي. في مقهى«الروضة»، يكرّر الصديق الموضوع ذاته، على أنغام«الشيشة»، فأستعير موقع عالم الاجتماع، في تفسير خريطة جمال بطبقات متعددة. فجمال نساء الصالحية، أقول له، يختلف عن جمال نساء سوق الحميدية، وجمال نساء شارع الحمراء، يختلف عن جمال نساء باب توما. ذلك أن الجمال السوري هو جمال حوض المتوسط عموماً. هناك جمال شعبي«بلدي»، تجده في نساء سوق الحميدية، من طبيعة النظرة والالتفاتة والابتسامة، والزي بالطبع. أما الصالحية فهي مزيج من كل أنواع الجمال، فهي منطقة عبور، ومصب لكل ينابيع الجمال السوري. جمال مكشوف، وآخر مستتر وراء حجاب. دلع وخفر، مواعيد سرّية، وتسوّق. يهز الصديق المصري رأسه، فيما ترصد عيناه بشغف، إحدى العابرات أمام زجاج المقهى، وأخرى، تعبر المقهى إلى الداخل بكامل صخبها. يقول ضاحكاً: «شكراً لمن اخترع الجينز»، قبل أن يضيف بأنه «قنبلة موقوتة»، يتمنى لو أنها تنفجر به، في أية لحظة.
في مربع«وسط البلد» تتجاور المتناقضات على نحو صريح، ولكلٍ جماله الخاص، وسطوته الحسية: بعد الحادية عشرة ليلاً، يقف طابور من الشباب أمام ملهى «الطاحونة الحمراء» بانتظار وصول قافلة من الراقصات الروسيات. إنه موعد مقدّس بالنسبة إليهم، طالما أنهن في اللباس الميداني الكامل. سوف تخرج بعض التعليقات العابرة، من هنا وهناك، ثم تتفرق الجموع، بعد أن تكون قد أفرغت شحنة الانتظار واللهفة والرغبة المشتعلة في اكتشاف الجمال «المستورد».إنها «سلعة» أخرى، بنظر البعض، لكنها من موقع سوسيولوجي، تصب في صلب تدريب العين على أنواع الجمال العابر للقارات، بعد أن هيّمن القبح البصري على حياتنا، بالإضافة إلى صور الدمار والموت اليومي الذي تضخه الشاشات على مدار الساعة. عين الأنثى لا تقل هجومية، في المقابل. فجيل اليوم أكثر جرأة في النظر، فتاة اليوم لم تعد تبالي بنظرية الخفر الشرقي، إنما بالعكس تماماً، فهي ترصد تفاصيل لا يعتني بها الرجل. لنقل إن النظرة الذكورية عمومية، فيما نظرة المرأة تفصيلية. تبدأ من الحذاء وتنتهي عند شكل الشاربين، و تسريحة الشعر.
علم الجمال اليوم، تجاوز فلسفة هيغل، ودخل في مناطق أكثر تركيزاً، ذهب باتجاه الحسية المطلقة. في فرنسا مثلاً، صعد فجأة اسم ميشال أونفري كآخر سلالة فلسفية معاصرة، فهذا الفيلسوف الشاب، اقتحم المكتبات في سلسلة دراسات مثيرة، سرعان ما وجدت مكانها لدى القراء. ثلاثة كتب تدور حول فلسفة الجمال من وجهة نظر مضادة، تنهض على مزج فلسفتي فريدريك نيتشه، وجيل دولوز، في معنى العدمية وسطوة الصورة. كتابه الأول:«فن اللذة من أجل مادية حسية ونظرية»، أطاح نظريات سابقة بدخوله مناطق، كانت قبله، وعرة فلسفياً، ثم جاء كتابه المثير للجدل «الجسد العاشق:من أجل شهوانية مشمسة»،وأخيراً «الرغبة في التحول إلى بركان».فلسفة ميشال أونفري، هي مزيج ذكي من التفكير المرح الذي يستعين بالفلسفة وأدوات العلوم الإنسانية، والأدب، ليمجد الرغبة والذوق والجمال. فالقمع الذي طال الجسد اليوم، بسبب العنف، يجد ضفة أخرى، في فلسفة صادمة كهذه، مهمتها،صناعة عنف الجمال، لتخفيف خسائر البصر مما لحق به من قبح وفناء في حروب تحصد يومياً مئات الأجساد مجاناً، أجساد كانت قبل موتها مباشرة، تحلم وترغب بأشياء كثيرة مؤجلة.
جولة يومية إذاً في شوارع الصالحية أو الحمراء أو باب توما، وصفة ناجعة، لاستعادة الجمال المفقود، وفرصة لتأمل ما يجري في شوارع اليوم من تحولات متسارعة، يصعب وضعها في إطار واحد، مثلما هي جولة رصد ميداني لما وصلت إليه الموضة. فالموضة وحدها اليوم من يتحكم بحرية الجسد، بين أن تصبح الفتاة دمية بلهاء، تفتقد إلى اختيار ما يناسبها من أزياء، وبين أن تسيّطر على جسدها بإضافة «ملعقة» من العقلانية، بعيداً عن تحكّم شركات الأزياء التي تزداد كرماً، صيفاً بعد صيف، في ابتذال خصوصية الجسد، وتحويله إلى دريئة مكشوفة للقنص، على مرأى من الجميع.