خليل صويلح خليل صويلح

تعيش ثقافة الشيبس

«سأمسح به الأرض»عبارة متداولة في قاموس النقد الثقافي السوري، وهي على فداحة الإثم، لا تثير اليوم أدنى أنواع الاحتجاج، أو الدهشة والاعتراض، وكأنها من صلب المعجم، حتى أن بعضهم يثني على صاحبها بحماسة، ويضيف في الطنبور نغماً، بأن يذكر مثالب إضافية إلى النص المقصود أو صاحبه، سواء كان هذا النص أدبياً أم فنياً، كما أنه ينفخ في الموقد كي تبقى النار مشتعلة في الحطب اليابس. هكذا تغيب المعايير والمصطلحات والمفاهيم النقدية ببساطة، ويتحوّل الشخص المعني إلى كومة من أعقاب السجائر فوق طاولة في مقهى مزدحم.

هذا الأمر الذي يتكرر على الدوام، وبسهولة شديدة، قد يطال فيلماً يعرض للتو، أو مسلسلاً في حلقاته الأولى، أو عرضاً مسرحياً، أو نصاً أدبياً، ما يجعل أصحاب عبارة «سأمسح به الأرض» في حالة استنفار قصوى، لالتقاط أية ثغرة عابرة في النص المعني، وتحويلها إلى خطأ فادح وجهل لا يُغتفر، عن طريق النظر إلى هذا العمل أو ذاك بمنظار أسود وعين حولاء، لا تبصر إلا ما ينسجم مع رغباتها، هذه الرغبات التي تقودها عمليات متواصلة من تصفية الحسابات الشخصية، والضرب تحت الحزام بكل مقدرتهم على البطش.
والمضحك في الأمر أن هؤلاء «النقاد» الأشاوس يفتقدون إلى أبجديات النقد وأصوله، وربما يتجاهلون هذه الأبجديات، أو أنهم مصابون بلوثة الشهرة الصحافية السريعة وعاهة الغرور المبكر، والتسلق على قامات أعلى من قاماتهم القصيرة التي تنهض على التهريج والتسالي والنفاق والإلغاء. في المقابل ليس لديهم ما يخسرونه طالما أن الساحة مفتوحة للأكاذيب والإشاعات. في هذا التيار الجارف، ليس بالضرورة أن تكون قد قرأت هذا النص أو شاهدت ذلك العرض، وحين تُسأل: كيف تشارك بحديث تجهل معطياته، تجيب برباطة جأش: «سمعت أن العرض رديء»، أو«يقال إن الفيلم سطحي»، و«الرواية تافهة»، و«ديوان شعر ركيك». وستجد عشرات المشجعين للإطاحة بكل من هو غائب عن «جلسة الحوار».
لا أحد يقرأ لأحد، ولا أحد يشاهد لأحد، لكن مطحنة الثرثرة تدور بأقصى طاقتها، إلى أن وصلت الثقافة السورية إلى الحضيض.
بإمكان المتابع الجدي أن يجد بعض الشذرات الإبداعية المتناثرة هنا وهناك، إذ لا تخلو الساحة من مواهب شابة في حقول الإبداع كافة، لكن القطيعة بلغت أوجها، فروائي الأمس، لا يعرف شيئاً عما يكتب اليوم من روايات جديدة، وليس بإمكانه تعداد خمسة أسماء من الأجيال اللاحقة، مثلما لا يعرف مبدعو اليوم أعمال من سبقهم. وفي هذه المسافة الفاصلة يكمن مأزق هذه الثقافة «العريقة».
مرة أجابني سينمائي شاب، أنجز فيلماً يتيماً بطول عشر دقائق، أنه يعمل من موقع القطيعة مع السينما السورية، قبل أن يعترف بأنه لم يشاهد أكثر من فيلمين. وقال آخر حقق شريطاً قصيراً بكاميرا منزلية «إنني أؤجل انتحاري»، قال هذه العبارة بكل وقار، ومن دون أن يرف له جفن، وبدا أن الأمر ليس مزاحاً على الإطلاق.
التبجح المعرفي علامة أخرى في المطبخ الإبداعي السوري، بوجود طهاة بالجملة، يصنعون من البيض الفاسد عجة، ومن الخواء الثقافي منطاداً يحلّق فوق سماء المتوسط، فالبعض لم تعد الخريطة المحلية تتسع لأجنحته، وذاته المتورمة، فيخترع أوهاماً يصدقها وحده، ويحاول تسويقها في كل مكان، حتى لو كان موقعه على طرف المائدة، دون أن يختبر الرائحة المنبعثة من مطبخ الجيران، مكتفياً بالمعلبات الفاسدة في ثلاجته المعطّلة.
ساحة تستيقظ على اجترار الأطباق ذاتها، دون معارك ثقافية حقيقية، كتلك التي كانت تشهدها في حقبتي السبعينيات والثمانينيات، بعد أن غاب عنها فرسان السجال واحتلها «السنافر» وأصحاب «ثقافة الشيبس» بمقولات شفهية، سرعان ما تتبخر في الهواء ليزداد تلوثاً.
حسناً، لنقل أن هذه «المصحة» تحتاج إلى أوكسجين آخر، يحرك الهواء الساكن، كي ينمو المشتل الإبداعي في تربة صالحة، بعيداً من «إمبراطورية الفساد الثقافي»، و«تجار الشنطة» العابرين، وثنائية المديح والهجاء، ومضخة «سأمسح به الأرض».
كي تنهض هذه الثقافة، نحتاج اليوم إلى ورشة جديدة، تعيد الحياة إلى البنية التحتية للثقافة، وإصلاح العطب في مفاصلها، وإقصاء مواضيع الإنشاء جانباً، وتشجيع المبادرات الفردية الخلاّقة، والمقترحات المبتكرة، وإنعاش ثقافة الحوار،  دون أمراض وأورام خبيثة، وقبل كل ذلك، نحتاج إلى دورة في التدريب على الديمقراطية. ولعل نظرة شاملة إلى ما آلت إليه حال الثقافة السورية، يكشف كم أن الجدران مائلة وآيلة للسقوط، ولم تعد تصلح حتى للصق النعوات!