مطبات بورصة شعبية
أخيراً افتتحت بورصة دمشق، وصرنا مثل كل دول العالم نتحدث عن سوق للأوراق المالية، ويمكن أن نصبح على أرقام جديدة ونمسي على غيرها، وسيمرر الشريط الأزرق أرقامها، وستتضمن النشرة الاقتصادية الرئيسية فقرة مطولة عن البورصة، وستمضي الصحف العامة والخاصة بالحديث عنها، ولا سمح الله قد تتحدث محطات كبرى عن خسائر هائلة في بورصة دمشق ناتجة عن تأثير الأزمة المالية العالمية.
هذا الحدث الاقتصادي مر بارداً وباهتاً، رغم أنه يتخذ شكل الإعلان عن استمرار الخط الذي رسمه الفريق الاقتصادي، السوق المفتوح، السوق التي لا تعرف سوى لغة المالكين، الأثرياء، السوق المرعبة التي لا تعرف سوى جامعي الأموال، وحكايات الساهرين في الفورسيزن والـ(ديدمان)، والشيراتون، السوق البعيدة عن وجوه أبناء البلد الذي يزرعون النهارات لئلا ينام أطفالهم على حلم سندويشة الزعتر بزيت الزيتون المخلوط بزيت (الأونا)، أبناء البلد الأكثرية التي لم تسمع بالخبر إلا من باب العلم بالشيء.
في افتتاح البورصة حضر الأباطرة وغاب الناس، غابت الوجوه المرهقة، الأيدي الخشنة، الثياب الرثة، الغبار المتطاير من الأردية عند المسير، حضر المترفون، أصحاب الياقات الغالية، اللباس الرسمي، الأيدي الناعمة المعطرة، الابتسامات، الأفواه النظيفة والأسنان البيضاء، ولكن الناس غابوا.
صرح النجوم الاقتصاديون عن بدء المرحلة الجديدة لاقتصاد جديد، واستبشروا الخير، الاستثمارات، التداول المثير للعملة، للأسهم، للورق، تبادلوا النظرات المتحدية، تطلعوا إلى الشاشة الرقمية، كان ينقصهم الكثير من التطاول، والرقاب الشامخة، العيون المترفعة، وغاب الناس الذين يقعون تحت النظرات، تقزموا أكثر من قبل، هل يرى من في القاعة جموع الباحثين عن عمل؟ هل يرى هؤلاء البسطات التي تسد الأرصفة وتتكاثر كفطر خبيث، أم حسن بائعة الدخان المهرب في البرامكة، أم علي التي تعيش على بيع السكاكر و(العلكة) بجوار مراكز خدمة (سيريتل، وم.ت.ن)، الضرير الذي ينادي لجبر خاطره في الصالحية، الولد العامل في ورشة الميكانيك في (حوش بلاس) ليعيل أسرة مثكولة ومكسورة.
مازال الحالمون على حالهم في الوظيفة، يكرهون أول الشهر، راتبه، وكيف سيوزعونه، كم دائناً في هذا الشهر، كم جمعية، كم قسطاً، كم مصيبة، كم هدية اجتماعية، كم مريضاً سيزورون.. ينتظرون زيادة الراتب، الترفيع الدوري بنسبة 9% الذي يهدد النائب الاقتصادي بقوانين جديدة تعيد النظر بها، وأن العاملين الذي يتقاضونها دون وجه حق لن يحصلوا عليها إلا بعد موافقة لجان الترفيع عليها وترى إن كان يستحقها أم لا، ومن أين سيأتي النائب بهذه اللجان؟، وهل يا ترى تستحقها هي؟
مازال الحالمون على أبواب مكاتب التشغيل، يعيدون كتابة طلبات الترشيح، يتمسحون بموظفيها، يتساءلون كيف تم تعيين فلان؟ كم دفع فلان؟ ما واسطة فلان؟ يحلمون بالوظيفة رغم قلتها، رغم كل شكوى الموظف، المهم ثمة ما يأتي في آخر الشهر، يجعل على الأقل صاحب الدكان، الصيدلاني، طبيب الأسنان، زميل العمل المرتشي، ثمة ما يجعل من كل هؤلاء شركاء في الراتب، يقسطونه، يدينونه، يصلحون أسنانه، ثمة ما يأتي به آخر الشهر.
حتى لا نكون من المتشائمين والذين يهاجمون التجارب الجديدة، الماضويين الذين لا يحبون إنجازات الحاضر وجديده، لن نحكم على تجربة لم تر النور بعد، لم نر خيرها من شرها، سوداويين نضع العصي في العجلات، سننتظر التجربة الجديدة، كما انتظرنا تباشير سوق الفريق الاقتصادي الذي وعدنا بالسعادة، فأغرقنا بالأزمات، الغلاء، الاحتكار، رفع الدعم ، الرغيف البائس، قسائم المازوت التي باعها الناس في الأزمات، ويبكونها الآن من البرد، المدعومون الجدد، الاستثمارات الخدمية، الفنادق الفخمة، المدارس الخاصة، التعليم الحكومي البائس، التعليم المفتوح والموازي والافتراضي، الاستثمارات في كل شيء، ويبقى الهواء استثماراً كبيراً للتلوث.
ليس افتتاح بورصة دمشق بخبر غير سار، لكن أخبارنا الباقية ليست كذلك، لدينا الكثير مما يقال عن الإحباط، الفقر، المدن المنسية في أحضان سوار المخالفات، العاطلين عن العمل في أول عطائهم، الواجمين خشية ألا مستقبل آمن في ظل اقتصاد لا يراهم، الكثيرين ممن يحلمون بسهم واحد ليس في البورصة.. في جيوبهم.