كي يصبح أُنسي في حقيبتها
يوم الخميس في مخبر الكيمياء، من كل أسبوع، كانت رائحة أنثى بعينها تطغى على كل الروائح التي كان لزاما علينا شمّها.. فبينما كان كثير من الطلبة يبحثون على الرفوف عن المحاليل والأحماض، كنت أبحث عن حقيبة تلك الأنثى لأدسّ فيها قصاصة منقوشا عليها بعض الأشطار الشعرية.
كنا جميعا طلابا وطالبات نأتي بحقائبنا نهاية الأسبوع لنركنها بجانب الحائط كي لا نضيّع المزيد من الوقت في اللحاق بالحافلات المغادرة إلى الداخل. البحث المضني عن عبارة صادمة لتلك الفتاة، كلفني شراء نسخة من كتاب «خواتم» لأنسي الحاج.. كنت حينها بدأتُ قراءة أعماله، الشيء الوحيد الذي كان يرهقني ليس مشاغلة الفتاة حتى يتسنى لي إيصال تلك العاطفة المشبوبة على قصاصة ورق معطر، ولا مسألة القبول أو الصدّ، بل مدى قدرة فَتاتي على استيعاب اقتباسي ذاك.. في يوم غابر من تلك السنة توخيت الدقة وأنا أتفحص محتويات حقيبتها، ألم يقولوا: «الحقائب أسرار». بالطبع لم يفرحني وجود عدد من القصاصات المعطرة الملوَّنة ، ولا ديوان «قالت لي السمراء» (وكان هذا الشيء يغيظني لأنه كان مصدر تفاخر الشاعر نزار قباني)! ولم يحزني اكتشافي أنانية المُحِبِّ فيَّ عندما لففت تلك الأوراق بغرض إتلاف كل ما يعيقني كي أُوْدع في حقيبتها قصاصتي. أعمق ما قاله الحاج في خواتمه رسمتُه على قصاصتي، وأجمل ما قاله نزار كان على قصاصاتهم، كانت كتابات تليّن قلب الحجر.. ولا أخفيكم سراً، كانت جميعها بالخط نفسه، وربما كُتبت بالقلم ذاته. لم يلن قلبها، بتمردها وبرائحة الأنثى كانت تقاتلنا. في اللاذقية وكان قلبي يومها قد رمّم جراحه، صادفْتُهما يسيران متلاصقين.
منذ أيام الجامعة كان أقلنا قراءة وأكثرنا مباشرة وصراحة، كان يحمل رضيعا بين يديه بينما هي تقود طفلا حاملةً حقيبة مواربا بابها بيدها الأخرى..