نحن جنود الحراسة
حفنة من الروائيين السوريين حجزوا الباص ذهاباً وإياباً، ولم يسمحوا لركاب غرباء أو جدد الصعود إلى الحافلة. كان خط سيرهم واضحاً، حتى أن سائق الباص لم يعد بحاجة فعلية للانتباه إلى الحفر والمطبات. محطة الانطلاق كان اسمها محطة العثمانيين، وفي العامية «العصملّي» أو سفربرلك، وسيتوقف الباص بالتأكيد عند محطة المماليك لتحية الظاهر بيبرس للتزود بالوقود، وقد يتوقف لمحاكمة تيمورلنك. الانتداب الفرنسي له حصة في الرحلة، قبل أن يتوقف الهوب هوب عند فلسطين لإنعاش المسافرين ربما بكوب عصير من برتقال يافا، وقد ينكش أحدهم أسنانه بفطيرة من محلات الـ«67» أو سوبر ماركت السجن السياسي.
كان التاريخ يتجوّل في تخوم النصوص بإعادة إنتاج أسماء الأبطال على نحو آخر، أو ما أسميه «فياغرا التاريخ». هكذا حفظنا الدرس جيداً، ولم نتمكن العد إلى العشرة.
هذا يكفي، ففي سلسلة الرتب الروائية لدينا لواء وكولونيل ورائد، فما حاجتكم إلى جنود الحراسة؟
نحن جنود الحراسة بالطبع، أو المناوبون الليليون ، أو الأغرار، بانتظار كلمة السرّ كي لا يتفجر اللغم بين أقدامنا.
لا اعتراف جدياً وصريحاً بجيل جديد في الرواية السورية، على العكس تماماً، هناك إقصاء علني من الكهنة الكبار، واتهامات بتخريب الرواية. هناك أيضاً محاولات لتصليح الباص المعطّل بإضافة عبارات من نوع «لا تسرع يا بابا نحن بانتظارك». نحن إذاً، من خطف الباص واحتل مقود السائق المتهور والطائش الذي حصل على رخصة سوق مزوّرة، فأثار هلع المارّة.
الاتهامات التي تطال الروائيين الجدد من نوع اقتحام المحرمات من أجل الشهرة والترجمة إلى اللغات الأخرى، والخفة واستعارة سرديات الآخر، هي في حقيقتها، محاولة لإزاحة هؤلاء الروائيين من الواجهة، وحين تنتفي هذه التهمة، هناك قائمة أخرى جاهزة: إنه جيل ركيك يخطئ بقواعد النحو والصرف، و يكتب عن الجنس بإيحاء من سفارات أجنبية «كولونيل روائي وجه لي شخصياً هذه التهمة في إحدى الصحف المحليّة»، وآخر حذّر من إقحام أدب غرف النوم في الروايات، وسمح مشكوراً بالتجوّل بالبيجاما بين الصالون والمطبخ، وثالثة ميّزت ما تكتبه عن بنات جيلها، بأنها تكتب أدباً، أما الأخريات فيكتبنّ قلة أدب.
في الواقع إن هؤلاء الكهنة، وربما البرابرة، كما أشتهي أن اسميهم، انتبهوا إلى أن البساط يُسحب من تحتهم، بعد أن استهلكوا التاريخ القديم وحقبة الانقلابات، وفساد السلطة، والبوليس السري، فأضافوا إلى نصوصهم الجديدة بعض المشهيّات، مثل الموبايل والبريد الالكتروني والأسماء الحقيقية للشوارع والمقاهي والساحات. قبل ذلك كانوا يلتقون تخييلياً في مقهى «الوردة البيضاء» مثلاً.
التجوّال في شوارع اليوم بكل تناقضاتها وخشونتها وصخبها، ظل بمنأى عن اهتمامات الجيل الروائي المكرّس، وكذلك من يطمح للشرعية وختم المختار، وحتى حين قارب بعضهم «الآن هنا» اشتبك مع هذه التحولات بحساسية قديمة وسرديات تقليدية، لم تمكّن هذه النصوص من مراودة اللحظة الراهنة كما ينبغي.
في رواياتي الأربع، استخدمت ضمير المتكلم، وإذا بالسهام تُرشق نحوي من كل الجهات،على اعتبار أنني أكتب سيرةً ذاتية، وأخذ بعضهم بمحاكمتي كمؤلف، نيابةً عمّا ترتكبه شخصياتي من حماقات غرامية وعلاقات عشوائية ومحاولة تحطيم بنى السرد النائم، خصوصاً أن الراوي في روايتي الأخيرة «زهور وسارة وناريمان»، كان يحمل اسم «خليل» كنوع من النكاية، حتى أن ناقداً وروائياً مرموقاً كتب غامزاً «فحل الرواية السورية». كأن إعادة الاعتبار إلى ضمير المتكلم على حساب ضمير الغائب، رغبة ممنوعة، فإعلاء شأن الذات منطقة محرّمة في ظل ثقافة الجموع والزي الموحّد.
أنت تتكلم عن رواية سورية جديدة؟
هذا يعني أنك هتكت قانون الطوارئ.
من أنت كي تتجاوز الحدود من دون جواز سفر؟
في الواقع هناك من بدأ يعترف بوجود مثل هذه الرواية، عربياً على الأقل، بدليل أن دور النشر العربية بدأت تهتم بالرواية السورية الجديدة، أما محلياً، فإن الاعتراف بها نقدياً، يشبه تجرّع زيت الخروع.