ثرثرة على عتبة صباح جديد!
فجأة.. نعود إلى الواجهة! نتحول إلى حديث الساعة، وسط احتدام الشاشات بالأخبار المختلفة من الأولمبياد العالمي إلى المهرجانات الفنية والثقافية المختلفة إلى أخبار السياسيين والفنانين.. الخ، لا يعود الحدث مهماً بقدر التفنن بنقله وطريقة وصوله، يصحو «ضمير العالم»، كما يسميه الإعلام، بين فترة وأخرى على مشهد أو قصة ما، تقول الكثير، وتكثف في مقولتها وجعنا.
الصورة ثرثارة، تحكي وتقول الكثير. ثرثرتها ليست بريئة، تعمد لإيلامنا، وهي أيضاً تؤرخ للحدث، وتصبح مجالاً هاماً للاستثمار، تحكي الصورة فتبكي «أحد ما» في مكان آخر، تمنحه بطولة «التعاطف» مع مأساتنا. تكفي عدة لحظات فقط لتحويل ذاك الغريب «المتعاطف» والذي لم يعرفنا يوماً إلى مادة وخبر يزيده شهرة!
من يؤرخ للحرب، بقسوتها وآلامها، حضورها الثقيل واليومي في حياتنا؟ في الأدب تصبح الحرب مجازاً، تلك المسافة التي تفصلنا عنها تعطيها جمالية ما، ليس هناك جمالية في عيش الحرب كواقع حقيقي. استطاع أدب الحرب أن يرصد الكثير من الأحداث المأساوية التي رافقتها، وترجم صورة الحرب البشعة أمام أعين الناس عبر نقل المآسي التي تتسبب بها وتخلفها، وعبر تتبع مصائر الأماكن والشخوص الذين عاشوا تفاصيلها الرهيبة. أجواء الخوف والارتباك والترقب، حتى الحذر يصبح حالة استثنائية.. في الأدب يكفي قليل من الحذر ليحميك في لحظة شاردة خارج إطار الشعور بالزمن.
في الأدب أيضاً يتحول البطل إلى أسطورة، يعيش حالة إنسانية استثنائية. تفاصيل الحرب حلوة المذاق في الأدب، تعطيه موضوعاً وصورة وتمنحه حالة خاصة من جمالية الحقيقة عندما توهمنا بتوثيقه، تشد وثاقه في ذاكرتنا فنتوهم أننا نعيش اللحظة التي عاشها أبطال مميزون تمكنوا من الانتصار لأنفسهم على بشاعة الحرب وقباحتها. أدب الحرب تناول حياة أبطال بعينهم، اليوم فردت البطولة ساحاتها لأناس كثر لم يختاروا دور البطولة، ولكنهم عاشوه، لم يعد البطل ذاك القائد أو الفارس الذي يقود «المعركة» ويذهب بجنوده إلى الانتصار. تعلن الوقائع كل يوم عن بطولات حقيقية يعيش الناس وقائعها، أطفال لم يبلغوا بعد رشدهم يتحولون الى أبطال..
يدفع المدنيون دائماً ثمن الحرب الباهظ. الحرب هي أقسى التجارب التي يمر بها الإنسان، تفعل فعلها في حياتنا وتتحول إلى نقطة تحول عامة وجمعية يشترك بها كل من عاشها وذاق ويلاتها، اختبار حقيقي لشخصية الإنسان. هي الذكرى التي لا يمكن لنا أن ننجو منها وكأنها لم تكن.
كنا نقرأ في أدبيات الحروب السابقة عن عدد القتلى والمجازر وحطام المدن وقصص الموت المختلفة، أما اليوم فنحن نعيشها، لم يختلف الحال اليوم كثيراً عما جرى في حروب الأمس سوى أننا مازلنا في المعمعة، ومازالت الحرب مستمرة.
في الأدب، غالباً ما دوّن الكتاب والأدباء رواياتهم وأعمالهم الأدبية بعد انتهاء الحروب، جرى استخلاص بعض النتائج وسالت أقلامهم حبراً سيلاً متأنياً حكيماً.. في حالة الحرب الدائرة اليوم فلا مجال لاستخلاص ما يكفي من النتائج بعد، لذلك تدور الأسئلة وتحوم في عقول الناس، المتفائلين والمتشائمين على حد سواء، البعض يعتقد أن الحب يكفي لإنهاء الحالة العصية على التحمل، وأن المزيد من الحب سوف يوقف العنف والقتل والدمار، والبعض الآخر ذهب في التحليل أعمق من ذلك، لن تتوقف الحرب ما لم يجري القضاء على مسبباتها.. الخ.
في معمعة الحرب القائمة أصبحنا جميعنا موثقِين لها بهذا الشكل أو ذاك، وسواء شئنا أم أبينا، منحتنا التكنولوجيا العالية المستوى هذا الامتياز، فبينما يواجه الرجال الحرب بشكل مباشر، تواجه النساء بشكل خاص التفاصيل اليومية لما تخفيه الحرب، للوجه الآخر لها، كل يوم تنام المرأة مستنزفة وقد أنهكها نهار الحرب الكثيف والطويل ومع ذلك تستيقظ على نهار آخر، تنتصر فيه مشيئة الحياة وإرادتها أمام الموت، هنا يتراكم ذلك الفارق النوعي في الوعي الجمعي للناس ويتثبت خلال الصراع من أجل البقاء.
ما تزال فكرة انتهاء الحرب حلماً عصياً لم يتحقق بعد، رغم الشجاعة التي يبديها الناس في مواجهتها. ورغم مرور لحظات ضعف كثيرة تجعل الكثيرين يعتقدون أن الحرب استنزفت الروح ولم يعد هناك قدرة على مواجهتها، ومع ذلك يستيقظ كل صباح على نهار جديد.