عبد الوهاب المسيري... راحلاًً صورة المفكر عند الغياب
تناقلت وسائل الإعلام في الأيام القليلة الماضية خبر وفاة المفكر المصري الكبير عبد الوهاب المسيري، بعد رحلة معرفية طويلة قضاها في التأليف والترجمة والتدريس، لتفقد الساحة الثقافية العربية بوفاته مثقفاً كبيراً، امتلك مشروعاً ثقافياً جدياً وناضجاً، يستحق التقدير والاحترام، مهما اتفقنا معه أو خالفناه.
يصعب علينا في هذا الحيز أن نستعرض كل الإسهامات الفكرية التي قدمها الراحل، والتي حاولت الكثير من وسائل الإعلام الأخرى، على كل حال، أن تقدم عرضاً سريعاً لها، ما سنحاول تقديمه إذاً هو قراءة موجزة لموقع الراحل الكبير ضمن مشهد ثقافي عربي متأزم.
عايش المسيري صعود اثنين من أكثر التيارات السياسية تأثيراً على الثقافة العربية، ونعني بهما التيار اليساري والتيار الإسلامي، وكانت له بصماته الفكرية على كلا التيارين، ولذلك فقد عُدَّ دائما من مفكري اليسار، ومفكري الاتجاه الإسلامي المعتدل. وقد أثرت تقلبات ومصائر هذين التيارين بدورها على مشروع المسيري، إذ نلمح في كتاباته أصداء مشروع الحداثة العربية المجهض، ومن ثم نكوصه إلى الخلف وثورته على قيم الحداثة والمعاصرة.
هكذا كان المسيري من أهم أعلام التحول الكبير الذي طرأ على جيله من المثقفين، فقد انطلق بأدواته المعرفية المصقولة لينتقد الحداثة والتنوير الأوربيين، من مواقع (ماقبل حداثية) إن صح التعبير، مهاجماً قيم الحضارة «المادية»، التي رأى فيها تفكيكاً وتشييئا للإنسان. وخائضاً معركته الفكرية الكبرى ضد الفكر العلماني الذي فصل حسب وجهة نظره الإنسان عن «القيمة» (والقيمة هنا تعني القيم الدينية-الأخلاقية)، رابطاً كل هذا بدراساته الشهيرة في الفكر والتاريخ الصهيوني، ومقدماُ مشروعاً لعلمانية «جزئية» تتناسب مع ثقافة المنطقة وهويتها الحضارية حسب تعبيره.
نجح المسيري إذاً في تقديم التعبير الفكري والفلسفي الأرقى للفكر الإسلامي المعاصر، ولعل ذلك هو ما ساعده على الظهور الإعلامي الواسع، حتى أصبح وجهاً مألوفاً للمواطن العربي، ورغم ذلك فقد ظل مشروعه محكوماً بنخبويته، فلم يقدر على تسيُّد الخطاب الإسلامي ، الذي بقي محروماً من التعبير الفلسفي الجاد، ربما عن قصد وتصميم من القائمين عليه.
وإذا كنا نرى أن مشروع المسيري الفكري قد بقي محدوداً بتناقضاته وأحادية نظرته، فإن ذلك لا يمنعنا من التنويه بأهميته الكبيرة، كفكر أصيل من الممكن الحوار والاختلاف معه تحت سقف من العقلانية والجدية، وفي سبيل إثراء الخطاب الفكري العربي.