تراث تصوف.... ثورة الذات في الإسلام (2)
لم يلقَ التحول الذي حاول المتصوفون أن يدخلوه إلى النظرة الإسلامية للذات أي إرتياح أو تشجيع من مختلف التيارات الفكرية والدينية الإسلامية، فمنذ اللحظة الأولى وجد المتصوفون أنفسهم في موضع الإدانة والتشهير، واضطروا للاصطدام مع مختلف الفرق الإسلامية على اختلاف اتجاهاتها. وإذا كان اصطدام المتصوفة مع السلفيين قد تميز بحدته وعنفه، فإن اصطدامهم مع التيارات العقلانية لم يكن يقل عنه صعوبةً ومرارة.
وقد نشأ الاصطدام الأول على مستوى السلوك، فقد بدأ متصوفو القرن الثاني الهجري بسلوك درب العزلة والتوحد مع الذات، وايجاد طرق ومسارب ذاتية باطنية للعبادة والتواصل مع الذات الإلهية، بعيداً عن كل المظاهر والطقوس الاجتماعية، وبالاعتماد على نشدان الضمير الداخلي، وتحكيم الحافز الذاتي في العبادة، وقد أثار هذا النمط من الحياة حفيظة الفقهاء والمتكلمين، الذين رأوا أنه سيفضي بالمتصوفة حتماً إلى الزيغ العقائدي، فهم بابتعادهم عن كل مظهر وسلطة اجتماعية دينية، وبانغلاقهم على عالمهم الذاتي، قادرون على شق دروبهم الفكرية الذاتية الخاصة، البعيدة عن كل رقابة وتحكم خارجيين. هكذا استطاع نقَّاد التصوف أن يتنبهوا في وقت مبكر إلى جانب هام منه، باعتباره ردة فعل ذاتوية على كل سلطة رقابة وتحكم اجتماعية-دينية.
ويبدو أن مخاوف رجال الدين قد تحققت مع تطور مسيرة التصوف، فمع بدء المتصوفة بتداول مصطلحات العشق الإلهي والوجد الصوفي، ثارت ثائرة الكثير من الفقهاء التقليديين، الذين لم يفهموا كيف يجرؤ المتصوفة على استعمال مفاهيم كالحب والعشق، تتعلق بمشاعر ذاتوية خاصة أقصيت إلى الدرجة الثانية، وأحيطت بستار من التحريم، أو التضييق في أفضل الظروف، للتعبير عن العلاقة مع الله، والتي يجب أن تمر بعرفهم عبر التعليمات والطقوس الدينية المضبوطة التي تحددها الموسسة الدينية. ولم يقتصر الاحتجاج على الفقهاء التقليديين والسلفيين، فقد شن علماء الكلام، وخاصةًُ المعتزلة منهم، حملة شعواء على المتصوفة، بعد ان رأوا بأنهم قد أخلُّوا بمبادئ اللاهوت العقلاني المحكم الذي حاولوا وضعه للإسلام، فالعشق الإلهي يقوم على مفاهيم التشبيه والاتحاد والحلول، التي تتعارض مع مفهومهم العقلاني للتوحيد.
ومع وصول التصوف إلى وجهي؛ العرفاني والفلسفي، بلغ قلق السلطات الدينية والسياسية منه إلى مداه الأبعد، فلم يعد هناك عائق يستطيع أن يحد من شطح الذات المتصوفة، التي استطاعت أن تهرب من كل القيود الاجتماعية والعقائدية والسياسية والفكرية، ليحفظ المتصوف بذلك حقه بأن يكون ثائراً أو قديساً أو مجنوناً، وأن يمزج في رؤياه الواقع بالخيال، رافضاً الخضوع لأي تحديد أو موضعة سلطوية. ولهذا بلغت المواجهة الدينية والفكرية مع المتصوفة إلى حد التكفير الصريح، وبلغ القمع الذي تعرضوا له إلى درجة التصفية الجسدية.
ولم يصطدم المتصوفة فقط بالسلطات الدينية والسياسية، بل اصطدموا أيضاً بجانب جوهري من الثقافة العربية الإسلامية، وهو الجانب اللغوي، فقد كانت البنيات اللغوية للسان العربي تفيد أساساً التعبير عن أشياء المجال الخارجي (الاجتماعي والسياسي والطبيعي)، وكانت بطابعها هذا سنداً أساسياً للسلطة على مستوى الخطاب، فكان التعبير عن الذات المتصوفة يتطلب القيام بثورة لغوية، كان محتماً أن تؤدي إلى تطوير كبير في بنية الثقافة العربية الإسلامية بمجملها، وهكذا لجأ المتصوفة في البدء إلى استعمال مصطلحات لغوية سائدة وتقليدية، واستخدامها للتعبير بعد إكسابها مضامين جديدة، ومن ثم تطور التعامل الصوفي مع اللغة على يد الحلاج الذي حاول أن يكسب العبارة العربية أبعاداً جديدة، قبل أن يأتي النّفَّري ليعلن انفصال لغة الباطن عن لغة الظاهر، وليستعمل اللغة كأداة للوصول إلى ماهو أبعد من اللغة، في أهم تجربة لغوية عرفتها الثقافة العربية الإسلامية على مر العصور. وفيما بعد سنجد السهروردي يحاول الاستعانة بالمصطلحات الفلسفية لتقديم لغة صوفية اكثر تطوراً ورقياً، بينما سيحاول ابن عربي استجلاء سيمياء الكلمة، والتنقيب في شحنة الحرف، لاستيلاد إمكانيات تعبيرية لم تعرفها اللغة العربية من قبل. هكذا حقق المتصوفة ثورتهم اللغوية إلى جانب ثوراتهم الأخرى الاجتماعية والسياسية والفكرية، والتي تمحورت كلها حول الذات.
استطاع التصوف إذاًَ عبر مسيرته الطويلة أن يشكل حالة متميزة في الثقافة الإسلامية، وأن يوسع حدودها وأطرها، قبل أن يفقد الكثير من زخمه، ويخضع للتأطير والتجميد في عصور الانحدار الحضاري الإسلامي، عبر حصره في عدد من الطرق الصوفية المتخلفة، التي سادها الإتباع، وخنقت كل إبداع ذاتي بين أفرادها، وغدت أداةً بيد السلطة، استعملتها لتدعيم نفوذها الاجتماعي، وضمان استمرار تسيدها وسيطرتها، حتى في مجال الحياة الداخلية للذات!
■ محمد سامي الكيال
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.