تراث محنة ابن حنبل (1)
شغل مفهوم «المحنة»، كمفهوم إيماني، مكانةً كبيرةً في الفكر الديني التقليدي، واكتسب الكثير من الأبعاد الملحمية والدرامية التي أعطته طابعه الخاص المميز، وبالنسبة لمحنة الفقيه المشهور أحمد بن حنبل، فقد امتزج الطابع الإيماني فيها بطابع تاريخي وحضاري مهم، مايزال يمتلك حضوراً طاغياً ومؤثراً على الحياة الفكرية والثقافية حتى اليوم.
ففي المواجهة التي ترسمها كتب التاريخ عادةً بين ابن حنبل، صاحب الفكر السلفي المتشدد، الذي لاقى الكثير من الإنتقادات من التنويريين قديماً وحديثاً، وبين المعتزلة، الذين اعتبروا تاريخاً من أهم أعلام التنوير الإسلامي، تبرز الكثير من العناصر التي تحرم دعاة التنوير (وخاصةً الذين يجهدون منهم بتأصيل «تنويرهم» في التراث) من الكثير من نقاط الاستناد والقوة، حيث ظهر في تلك المواجهة وجهٌ آخر للمعتزلة (أئمة التنوير الإسلامي)، أبرز طابعاً قمعياً واضحاً لفكرهم، واستعدادهم للتحالف مع مؤسسات السلطة القمعية لفرض آرائهم ومعتقداتهم على كل من يخالفها، بأسلوب لا يختلف كثيراً عن الاسلوب الذي ينسب تاريخياً للسلفيين، مما يخلخل الانطباع السائد عن التنوير الإسلامي، كفكر حر ومتسامح لاقى الكثير من الاضطهاد والملاحقة عبر العصور، ويلقي بالظلال نفسها على المشروع التنويري المعاصر، الذي لايستطيع أن يسلم من الشكوك التي ترى فيه مشروعاً قمعياً موازياً للمشروع القمعي الإسلاموي السلفي.
وإذا كنا لانسعى هنا إلى الدفاع عن المعتزلة في وجه هذه التهمة (وهم ليسوا أبرياءً منها)، كما أننا لا نهتم بالتهجم على فكر ابن حنبل (والذي مايزال نقده مع ذلك يشكل رهاناً كبيراً وواجباً على الفكر العربي التنويري)، فإننا سنسعى إلى وضع هذه القضية في موضعها الصحيح، ضمن العلاقة ثنائية الجانب بين الفكري والسلطوي في التراث الإسلامي، وعلى اساس موضوعة أنه لا توجد معرفة أو فكر بريئان من الناحية السياسية.
إن قضية القول بخلق القرآن، والتي لاقى ابن حنبل الكثير من الاضطهاد والتعذيب بسبب رفضه لها، جاءت ضمن سياق سياسي-سلطوي شديد التعقيد، فمنذ أن وقع الصراع السياسي الكبير بين الخليفة الأمين وأخيه المأمون،حدثت خلخلة كبيرة في بنية المؤسسات السلطوية في الدولة العباسية، تجلت أولاً بالظهور العاصف للتنظيمات الشعبية التي سعت إلى سد الفراغ الحاصل في السلطة نتيجةً لذلك الصراع، عن طريق فرض سلطة أمر واقع شعبي، دون أن تتمكن من الحصول على التغطية الدينية اللازمة من رجال الدين والفقهاء، لأسباب فكرية وطبقية متنوعة، ومن هنا برز التجلي الثاني للخلخلة الحاصلة في مؤسسات السلطة العباسية، حيث حاول الفقهاء أن يستعيدوا التوازن الاجتماعي المفقود، من خلال قيامهم بمهمة «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، التي مكًّنتهم من الحصول على حظوة كبيرة لدى الناس ضاهت حظوة التنظيمات الشعبية، بل وتفوقت عليها في الكثير من الأحيان.
وهكذا ومع المحاولات الأولى التي بذلها الخليفة المأمون لترميم سلطته، انتظم الفقهاء في سلك المعارضة للحكم العباسي، وشكلوا بحظوتهم الشعبية سلطةً مضادة لسلطة الخليفة، مما جعل تحجيم سلطة الفقهاء شرطاً ضرورياً لاستقرار الحكم.
وبما أن المعركة السياسية في التراث الإسلامي كانت تمرُّ لزاماً بالصراع الديني- الأيديولوجي، فقد كان على الخليفة المأمون أن يجد أيدلوجيا مناقضة لأيديولوجيا الفقهاء، تمتلك القدرة على التماهي مع أهداف الدولة، وضرب استقرار الأفكار الدينية السائدة بين الجماهير، التي أقام الفقهاء عليها أساس سلطتهم، من هنا كانت استعانة المأمون بفكر «أهل العدل والتوحيد»، أي المعتزلة، لمواجهة فكر «أهل السنة والجماعة»، أي فكر الفقهاء.
وللحديث تتمة ...
■ محمد سامي الكيال
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.