طه خليل: أكتب كما أشعر وأرى وأحبّ
شاعر شفّاف هو طه خليل، يكتب قصيدة تميد خيوطها اللامرئية في أمكنة متباعدة.. منذ استقر في سورية وهو يقيم في الشمال الشرقي ليكتب بعيداً عن الضجيج، ويمارس الصيد. من أعماله: «ملك أعمى» و«قبل فوات الأحزان» و«أينما ذهبت».
في مجموعتك (أينما ذهبت) اتضحت معالم شخصيتك الشعرية، لكنك في المجموعتين السابقتين كنت شاعراً غارقاً في أوهام أيديولوجيا.. كيف انتبهت لذلك وأنجزتَ انقلابك عليك؟
وأنا الآخر عرفت فيما عرفت أن بعض ما كنت أضمنه شعري ما هو إلا أوهام لا علاقة لها بالشعر، وما هي إلا محاولة فاشلة لتقليد فاشلين، الفاشلين الذين أوهمونا أن الشعر سيبني دولاً ويحقق حريات نفتقدها، فابتعدنا عن الشعر، ومارسنا نفاقاً سياسياً في كتاباتنا، وصار لنا خصوم لم نكن بحاجة لهم أصلاً، وحين رأيت الانهيارات، شعرت وقتها كم قسوت على قصيدتي، وكم توهمت بعدالات كانت مكبلة في الأقبية، وكم من حبيبة جميلة نسيت عينيها أمام زخم النفاق ذاك، وكم وكم..
عدت إلى قصيدتي، وضحكت بمرارة على الكثير مما كتبته، وعدت إلى نفسي وروحي التي تناسيتها طويلا، فعرفت أنني لن أكتب بصدق وعمق إن لم التفت إلى روحي أنا، وليس لأرواح الآخرين.
كنا محكومين بإرادات لا ننتمي إليها، ودوائر ندخلها وهي أضيق من حيز أرواحنا، فما كان علي إلا أن أتنفس الهواء بعيدا عن كل ذلك الصخب، وأكتب كما أشعر وأرى وأحب فكان كتاب «أينما ذهبت».
قلما نجد شاعراً كردياً يكتب بالعربية قد نجا من فخّ سليم بركات. هل تحوّل هذا الشاعر إلى قدر حتميّ على سواه، مع أننا لا نجد من يضارعه من حيث مكانته اللغويّة، أو جسارته في بناء عالمه الشعريّ؟؟
لا شك أن سليم بركات شاعر كبير، وخطير في الوقت نفسه، فهناك من يعتقد بعد قراءته، أن الشعر مجرد طلاسم والغاز، ومفردات مثل: الصلصال، الكراكي، النفير، الهبوب، الكمائن.. الخ.. لذلك تجد الأطنان من الكتبة الكرد يحومون حول هذه المفردات ويدبجون جملا كاريكاتورية دون أن يعوا حقيقة التركيب اللفظي والبناء الهندسي للجملة، بل تجد بعضهم لا يفرق بين الفاعل ونائبه - دعك من فهم البحور- ويصدر ديواناً يملؤه بتلك المفردات، ظاناً أنه يقول شعراً، هذه هي الكارثة التي وقعت على الكثير من الرؤوس المسكينة، فأفسدت الشعر وعبثت باللغة والحياة.
هناك من يمكنه أن يكون طالباً في مدرسة محمود درويش، إلا أنني أشك تماماً أن ينجح أحد إن تتلمذ على شعر سليم بركات، فشعر سليم فاضح وحاد يؤلم من يقترب منه دون أن يحمل عدة ثقيلة، وملكات لغوية استثنائية، وهذا ليس بالأمر اليسير.
سافرت كثيراً، ودائماً كنت توقع القصائد في أمكنة مختلفة، ومن يلاحق تلك التواقيع يقع في خريطة مثيرة.. ما أثر هذه الأسفار عليك إنساناً وشاعراً؟ وما الإحساس الذي ينتابك حين تقرأ قصائدك الممزقة مثلك، خاصة وأنك قلت «صار لدي أولاد بأكثر من لغة»؟
نعم لقد سافرت، وعشت، وربما أكثر مما يحتمله قلبي، وصار لي أطفال بلغات عديدة، وعدت ثانية من حيث انطلقت، لأصل إلى متعة التأمل، وتواضع من يكتشف أن للحياة سرها الذي لن نصل إليه، وفي العالم ثقافات أهم من ثقافاتنا، وجروح أعمق من جراحاتنا، ولغات أجمل من لغاتنا، ونساء أجمل من نسائنا، وحبيبات إن ابتعدنا عنهن يرسلن لنا ضفائرهن في طرود بريدية، ويقلن: «لم أعد أحتاج لهذه الضفائر».
ما عشته خلال سنوات الغربة كان مثيراً، ومحزناً، تعرفت على أصدقاء كثر، ومدن كثيرة أحببتها، وأنهار وغابات، وبحيرات، أحببت في القطارات السريعة، وفي الطائرات النفاثة، وفي ملاعب التنس، وصالات عرض الفنون، تعرفت على قتلة، وعلى ضحايا، ووقفتُ أمام تماثيل لفنانين وطغاة قديمين، نثرت من رذاذ روحي على الكثير من الأماكن من بيرن وبرلين حتى جزيرة باربادوس في المحيط الأطلسي وصخورها المرجانية.
ولملمت من تلك الأماكن الكثير من الضوء ومن التعب والحزن والمفردات لأكمل مشاهد الحب في قصائدي، حين أكتب اليوم أكاد أتلمس كل تلك الجغرافيات من حولي، لن تنفك روحي من زبد المحيطات بعد اليوم.
لديك اهتمامات غنائية غريبة، حيث تحتل سميرة توفيق وفهد بلان وناظم الغزالي، وسواهم مكانة خاصة لديك.. ما الذي شكّل هذه الذائقة؟
نعم.. إن لسميرة توفيق تأثيراً علي ربما يفوق أي تأثير آخر، لقد نمت طفولتي على صوتها وأينعت، ولا أبالغ إن قلت لك إنها تفرحني أكثر من أشعار أدونيس.
صوت سميرة توفيق يعيدني إلى نقاء الحياة، وعذرية الأرض، ويبعدني عن نفاق الحروب ودجل المنظرين، وأوهام المبشرين والمسلسلات العثمانية المدبلجة.
ماذا عن الرسم وأنت رسّام أيضاً.. ما العلاقة التي تربطك بهذا الفنّ خصوصاً وأنّ شعراء كباراً وقعوا في الغواية ذاتها؟؟
للألوان عندي روائحها الخاصة، تماماً كما لكل امرأة رائحتها، ولكل شجرة، ولكل مدينة،ما زلت أرسم، لكنني لن أقدم نفسي رساماً، لأنني لو فعلت ذلك فعلي أن أقدم نفسي صياداً للسمك في بحيرة عجاجة أيضاً، أو نهر دجلة. من العبث ألا أحب ما دامت الحياة قصيرة إلى هذا الحد، فتراني أمارس ما أحبه، لأقول للموت إن جاء: انظر لقد سرقت منك أكثر مما تتصور.