رائد وحش رائد وحش

ثلاثة كتب شعرية لبول شاوول: التّوالد من لدن الذات

لم ينقلب بول شاوول على مقترح "قصيدة البياض" الذي دشنه في سبعينات القرن الماضي وحسب، بل إنّ في تجربة هذا الشاعر أكثر من منعطف، وأكثر من منقلب، ويمكننا أن نرى ذلك في أكثر من مجموعة، مع أنه كان يتأخّر على الدوام في النشر، إذ كثيراً ما يدفع عملاً أو عملين إلى الطباعة، بعد شغل سنوات، ومؤخراً دفع ثلاثة كتب شعرية دفعة واحدة إلى القارئ عن طريق (دار النهضة العربية ـ بيروت)..

المجموعات الثلاث هي: (بلا أثر يذكر)، (دفتر سيجارة)، (هؤلاء الذين يموتون خلف أعمارهم). في هذه المجموعات نقلة أخرى إلى مربع جديد، ينأى فيه صاحب (بوصلة الدم) عن البلاغة التي دمغت تجربته الشعرية، حيث نجده يكتب ضد البلاغة، ضد نفسه، مؤكداً أنه شاعر لا يزال يتشكّل، دون أن تقوى عليه الأسلبة. شاعر مستمر في التوالد من لدن ذاته، من ماء تجربته.

يذهب شاوول، منذ زمن ومجموعات، إلى قصيدة النثر الشاملة، شكلاً ومضموناً، حيث يكتب قصيدة هي كتلة كاملة على الصفحة، مبتعداً عن التشطير الذي طالما وضع قصيدة النثر في مشابهة مع قصيدة التفعلية، وهنا تتحوّل قصيدة النثر إلى نوع أدبي خاص، قادر على استيعاب جميع الأجناس والأنواع الفنية والأدبية، كما هي الرواية تماماً، مع اختلاف في جوهر البوصلة. وكذلك يبتعد عن العناوين مكتفياً بالأرقام، ليوحي بأنّ ما يشتغله هو نصّ واحد، يتوالد على شكل نصوص، لكنّه في المحصلة النهائية عمل متكامل. ولعل الأهم في هذه المجموعات الثلاث هو تخلص شاعرها من الأناقة اللغوية الكبيرة التي كان يدأب على رفد نصه بها، إلى ذلك الحد الذي يغلقها أمام عملية التلقي لتبقى قصيدة اجتراح أساليب، وحفر ثقافي، أكثر مما هي حالة إنسانية، كيمياء لغوية كما حدث في (كشهر طويل من العشق). لكن الأمر مختلف الآن، حيث تكتسب القصيدة هوية فنية أخرى، لكنها هوية مفتوحة على احتمالات التحوّل كلها.

يكرّس بول شاوول مجموعته هذه، بالكامل، للسيجارة، مانحاً هذه الرفقة الطويلة ما تستحقه من إعلانات الولاء والحب. وإذا كان الموضوع غريباً، وغير مألوف، فسيكون الحكم بخصوص كيفية تناوله، وتدويره، والبحث فيه.

في هذا البحث الشعري في السيجارة، بوصفها موضوعاً، يحلق شاوول عالياً، في كتابة نصوص متخففة كلياً من أعباء الكتابة التي كان يتنكّبها نصّه من قبل، فاللّغة تخفتُ وتهدأ إلى درجة مقاربتها الصمت في سرد شعري جوانيّ، يوائم بين الشّعر والصمت، والتّأمل والصّمت، أيضاً: "كلما ازداد صمتك ازددت تدخيناً" ص83.

يفحص الشاعر هذه العلاقة من مبتدئها إلى خبرها، منذ تعلّم عادة التدخين، وحتى صار ذوّاقة في مجاله، فيسرد أطيب الماركات، ويصف طرق التدخين المختلفة بين شخص وآخر، وكذلك طقوس التدخين، إلى حدّ ربطه لون الدخان بمزاج الشخص الذي ينفثه، هكذا يكمننا قراءة أحوال الناس من سجائرهم، فإذا كان الدخان، حسب رؤى (دفتر سيجارة)، خارجاً من الشفتين هبوباً فذلك يعني أن الأفكار زرقاء، وإذا خرج أحمر فإنه يوحي بمشاعر خاصة، كما وأنّ صاحب (منديل عطيل) يربط بين ماركة السيجارة ومذاق القهوة المناسب لها، من أجل ضبط المذاق. ليصل إلى اعتبار "السيجارة أهمّ مؤرّخ في الأزمنة الحديثة" ص 11.

وسيصل التصعيد ذروته في الحركة التي يسند فيها الشاعر ضمير المتكلّم إلى السيجارة نفسها، فتتحدث كامرأة في لحظة جنسيّة، لكنّ الصادم أنّ الحبّ المدعوم برغبة شبقيّة متوتّرة وعالية، سيُستبدل بنشوة حسيّة أخرى، مجالها الشّفاه، أي أنّ اللّذة الحسيّة ستكمن في التّدخين، لا في العمليّة الجنسيّة. وهذا ما سنراه في مكان آخر، حين يغيّر التّدخين الاشتهاء الحسيّ المباشر بين رجل وامرأة، بل إنّ الشاعر، في لحظة ما، سيعطي التدخين الأفضلية على اللقاء الحميم: "عندما قالت له: (انزع السيجارة من فمك لكي تقبلني)، نظر إليها طويلاً وقبّلها بعينيه" ص73.

في (بلا أثر يذكّر) يبدأ الديوان من لحظة انتظارٍ في المقهى، حيث يقوم السّارد الذي جاء الطّاولة نفسها، في الميعاد نفسه، وبالملابس نفسها، لينتظر رجلاً. وبعد قليل سنعرف أن السارد المُنتَظِر هو نفسه الرجل المُنتظَر. وينتهي الديوان بدخول الآخر، الشبيه، القرين، وفعله ما يفعله عادة، ثم يمضي، ثم يعود، ولكن في العودة، في البقاء، لا يبقى لا الشخص ولا شبحه، كل ما يبقى، وكأنّه هو ما يبقى حقيقة، الأشياء الصغيرة التي يستعملها، متاع المرء. وحتّى هذه الأشياء تزول رويداً رويداً، دون أي أثر يذكّر، ومن هنا كان العنوان.

وما بين البداية والنهاية، يعالج الشاعر الأشياء بمنطق خاصّ، منطق يقتبس صفوة فن اليوميات، وجذوة السيناريو، وسلاسة المقال، مع إعادة تكوينها شعرياً. ففي نص مخصص للعيون يكتب: (مرة أحب أن تكونا زرقاوين، لأن هذا اللون الأزرق يشبه الأفكار الغامضة)، ثم يقوم بتقليب احتمال لون العينين بين الأسود والبني والأخضر، ليصل إلى لحظة الشعر من هذا الهذر: (العيون تشبه الأشياء التي لا تراها) ص48.

في (بلا أثر يذكر) هناك، في الأغلب، ربط بين آخر جملة في النص، وأول جملة في النص الذي يليه، بما يشي باتصال النصوص، من جهة، وللإمعان في استغراق الحالة إلى مطلقها، أعني المطلق الذي يتيحه الشعر، من جهة أخرى.

يشير تذييل القصيدة/ الديوان بـ(هؤلاء الذين يموتون خلف أعمارهم) ـ وهو نص مهدى (إلى أطفال غزة) ـ إلى أنّ الكتابة تمت تحت تأثير الانفعال المباشر في الحرب الإسرائيليّة الأخيرة على غزة. يقول التذييل: (كُتب هذا النّصّ ليل 31 كانون الأول 2008 وفجر 2009). أي أنّه نصّ مكتوب تحت تأثير الانفعال بحدث، ولعلّ القارئ المطلع يدرك جيداً كم تنتج الأحداث نصوصاً تمجها الشعارات، وتميعها الانفعالات. على خلاف كل هذا يكتب بول شاوول قصيدة أطفال غزة شعراً صافياً. موت الأطفال شكّل صدمة كبرى، لا للشاعر وحسب، بل لكلّ من تابع الحدث، وهذا الموت يجعل القصيدة تنهض على فكرة الموت، موت كل شيء، في اشتباك مع قصيدة إليوت (الأرض الخراب): (هؤلاء الذين يموتون خلف أعمارهم/ (أطفال غزة)/ هؤلاء الذين يكبرون خلف موتهم/ ولا سنوات تحصى/ ولا أسماء/ ولا لحظات تروى/ لإرثٍ أو لمقامٍ) ص3..

يرسم شاوول ملامح تراجيدية لأطفال غزّة تختلف عن الصورة التلفزيونيّة، من حيث مقاربته لما في دواخلهم من ألم وأمل، دون أن يساوم على فن الشعر. وفي الوقت ذاته يعمل على تسجيل موقف الشعر والشاعر من التوحش والهمجية ممن يسميهم بـ(الوحوش الطالعة من التوراة) الذين لم يتركوا للحياة حياتها.

بول شاوول في إصداراته الشعرية الجديدة ينقل قصيدة النثر العربيّة إلى منطقة شديدة الخصوصية بفرادة الموضوع والأسلوب في (دفتر سيجارة) و(لا شيء يذكر)، وبطريقة التعاطي مع الحدث المباشر في (هؤلاء الذين يموتون خلف أعمارهم)، مقدّماً مقترحه كما يفعل شاعر شابٌّ يقدّم مقترحه الجديد للتوّ.

آخر تعديل على الجمعة, 29 تموز/يوليو 2016 20:55