بشيء من نزقي
في ذلك الحي عرفت المتة وطلّقت الشاي المحلى، وتعلمت أن كأس المتة يمكن أن يُحمّـل بالعديد من العادات الناظمة لسلوك المحتسي، ربما، نكاية بالقهوة المرة!!
كما تعلمت كيف يمكن للكأس نفسه أن يُدار على الجميع واحدا تلو الآخر، كان ذلك في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، فقد ترك خلافي مع كثير من أهلي وحتى أبي وقعا شديدا في نفسي فقادني نزقي إلى أبعد حد ممكن، هربتُ إلى دمشق وتحديدا إلى أطراف حي التضامن، المصادفة وحدها عرفّتني بثلة من الشباب: تركمان، أكراد، عرب.. والقائمة تطول. جغرافيا المخيم كانت أشد ما عانيت أما ما تبقى من المعاناة فقد تكفل بتخفيفه الأصدقاء، ذلكم الخليط العجيب الذي يفتح أمامك بابين لا ثالث لهما إما الاندماج أو الانزواء فكان الخيار الأول هو دربي الذي سلكته حتى هذا اليوم. شحّاذه كان أهم الذين قابلتهم في المخيم، فقد لفتني فيه شيئان أولهما تحليه بالنخوة في مساعدة جيرانه وخاصة أيام العطل والأعياد عندما يستغل المحتاجون لبناء غرفة مخالفة غياب أعين البلدية لتجده قد انبرى للمساعدة على غرار الكثيرين في تلك العشوائيات، أما الشيء الثاني فهو المعجم الزراعي المشترك لكلينا كوننا من الجنوب ومن مدينتين متجاورتين بالجغرافيا والطباع.. مع هذا الصديق وفي بيته سمعت تلك العبارة الواخزة والتي غيرت منحى حياتي إلى الأبد: «الإنسان صانع تاريخه»، كنت وأنا القادم بعد امتحانات البكالوريا معبأ بجبرية يصعب (فكفكتها) بدأتُ الاستماع إلى الأحاديث والحوارات بعد أسبوع واحد من وصولي، فقد كانت مشارب الأصدقاء هؤلاء ومنطلقاتهم متلونة كقوس قزح فكان الاحتكاك وكانت المطبات الأولى التي فضحت ضحالة معرفتي وقلة حيلتي في المضي بالحوارات، فقط المصطلحات الزراعية كانت تجمعني بشحاذه (شاعوب، مذراة، خيشة، منساس) أما مصطلحات مثل: الحداثة الشعرية، المادية الجدلية، العروبة الحضارية، البنيوية، التفكيكية ـ وهذه الأخيرة أضحت موضة في تلك الحقبة وخاصة بعد ظهور أطياف ماركس لديريدا ـ فقد كانت غريبة عني وكان صمود تلك المصطلحات في ذهني يشابه عمارة ذلك الحي إذ كانت البيوت تسند بعضها بعضا منتظرة حدثا ما يجعلها بالية وغير صالحة للاستعمال، كنظرية الزلزال القادم لا محالة والذي يمكن له تقويض كل شيء، وهذا الخوف من رداءة البناء أدى بطبيعة الحال لظهور أهم معلم ثقافي اجتماعي في تلك العشوائيات، الخوف الأبدي من إصغاء الجيران إلى الأحاديث الدائرة بسبب تلاصق الجدران وطبيعتها، سماكتها تتجاوز العشرة سنتمترات قليلاً. هناك كان ضعفي المعرفي مذهلا وأحسسته ثقبا أسود في أعماق الكون لا يمكن الوصول إليه أو مباغتته من قِبلي إلا بعد لأي عظيم، فأنا إلى هذه اللحظة أشعر أني نصف خائف وأعيش في حوران في بيت مقاوم للزلازل، وحتى هذه اللحظة أيضا أشعر أني نصف مثقف وأحمد الله كثيراً على هذه النعمة!! مخالفا غرامشي الذي صرح بأن: أنصاف المثقفين أشد خطراً على المجتمع من الجاهلين.. لأن تلك الهوامش والعشوائيات فيها ما فيها من الضياع والجهل أيضا فلو أن المصادفة عرّفتني (بأزعر) من هؤلاء الزعران الذين يكثرون في تلك الأحياء لما كنت نصف المثقف الذي يصنع تاريخه، بل لربما صرت أشهر من بطل زقاق المدق زيطة صانع العاهات!!!