محمد سامي الكيال محمد سامي الكيال

«علمانية المشرق» في ورشة عمل مغلقة!!

نحن الآن في إحدى القاعات الدمشقية الفاخرة الواقعة في «بيت العقاد» الذي أصبح اليوم «المعهد الدنمركي بدمشق»، نجلس بين مجموعة صغيرة من الأشخاص الذين تبدو عليهم سمات الجدية و«النخبوية»، ونستمع إلى أحاديثهم الهامسة التي تدور بعدة لغات (فالأجانب كثرٌ في بيت العقاد)، وتشي بأن حدثاً جللاً سيقع بعد لحظات.

لا يفوتنا أن نختلس برهبة بعض النظرات إلى وجوه المفكرين الأجلاء الذين احتشدوا في تلك القاعة، فها هنا تجتمع أسماء براقة مثل: صادق جلال العظم، رجاء بن سلامة، فهمي جدعان، رشيد الخيون، لتحدثنا عن العلمانية في مشرقنا الحزين. هذا فضلاً عن المحاضرين الأجانب الذين  بدت عليهم علامات الاستعداد لإمطارنا بوجبات معرفية  دسمة... نضبط أجهزة الترجمة الفورية المعلقة بآذاننا استعداداً  لما سيأتي، ونشحذ أذهاننا لتكون بمستوى ورشة العمل «المغلقة» التي ستنطلق بعد لحظات.

ورشة العمل هذه كان اسمها قبل أيام قليلة  «مؤتمر العلمانية في المشرق العربي(2)- الدولة العلمانية ومسألة الدين»، وكان مقرراً عقدها في «مركز رضا سعيد للمؤتمرات» بجامعة دمشق، إلا أن مجموعة من «المصادفات» التي لا تحدث إلا في بلداننا السعيدة مسختها إلى ورشة عمل مغلقة في بيت العقاد، فأجهزة الصوت تعطلت فجأة في مركز رضا سعيد، ووزارة الثقافة أبدت عجزها عن تأمين مكان بديل للمؤتمر، فما كان من القائمين على المؤتمر (صاحبا داري «بترا» و «أطلس») إلا أن وجها دعوات شبه سرية إلى عدد من سعيدي الحظ لحضور ورشتهم المغلقة. (فيما بعد علمنا أن عدداً من الأشخاص تجمهروا عند باب مركز رضا سعيد بانتظار بدء المؤتمر، دون أن يعلموا بخبر إلغائه الذي وزع فقط على بعض المختارين، مثله مثل دعوات حضور الورشة المغلقة!!).

لن نناقش هنا العقلية التي عرقلت بذلك الأسلوب المبتذل قيام هذا المؤتمر الذي كان من شأنه (مهما كانت درجة خلافنا أو اتفاقنا مع وجهات نظر القائمين عليه) أن يبعث قليلاً من الحياة في حياتنا الثقافية والفكرية الراكدة، فلهذه العقلية تكتيكاتها وأساليب عملها التي باتت معروفة للجميع، ولا جدوى كبيرة من مناقشتها هنا، ولكن الذي يثير لدينا الكثير من التساؤلات هو عقلية القائمين على مثل هذه النشاطات والذين كثيراً ما ينصبون أنفسهم أبطالاً للعلمانية والتنوير في سياقاتنا الثقافية المعتمة؛  فإذا كان لا بد للعلمانية من مؤتمر، وإذا كان هناك من سعى لعرقلة هذا المؤتمر، فهل يكون الحل تحويله إلى ورشة عمل «مغلقة» إلى درجة الاختناق؟! (مع العلم أنه كان بإمكان المنظمين عقد المؤتمر بعيداً عن الأمكنة التي تقدمها المؤسسات الرسمية). 

بعودة سريعة إلى تاريخنا القريب، نجد أن مجمل النشاط التنويري (الفكري والثقافي والاجتماعي والسياسي) الذي شهدته سورية منذ بدايات القرن الماضي، والذي عَلْمن مختلف نواحي الحياة سواء طرح قضية العلمانية بشكل مباشر أم لم يطرحها، هذا النشاط لم يلجأ أبداً إلى الانكماش في القاعات المغلقة أياً كانت الضغوط التي تعرض لها؛ فمن كتابات المفكرين النهضويين والنقديين، مروراً بنضال رواد العمل المدني والأهلي، وصولاً إلى نشاط الأحزاب السياسية التي كانت علمانية بأغلبيتها الساحقة، بل حتى نشاط بعض الأحزاب الدينية التي اضطرت إلى علمنة نشاطها وطروحاتها في ذلك الشرط التاريخي (عندما كانت هناك «سياسة» في سورية. ولا ننسى في هذا السياق «الجبهة الاشتراكية الإسلامية» التي أسسها الشيخ مصطفى السباعي في البرلمان السوري). خلال هذا النشاط التنويري كله كان العمل يجري على الأرض.. الأرض الرحيبة غير المسورة، وبين الناس.. الناس العاديين البسطاء، وليس بين النخب المحلقة في فضاء ورشات العمل المغلقة، مهما كان موقف السلطات وضغوطها وإزعاجاتها.

قد نجد جذور هذا الموقف «الانغلاقي» لدى منظمي المؤتمر في بنية خطابهم نفسه، فطرح قضية العلمانية مفصولةً عن بقية القضايا الجوهرية الملحة (الديموقراطية، مسألة المواطنة والوطن، الأزمة التاريخية الكبرى في تركيب البنى الاقتصادية- الاجتماعية، الوضع الاقتصادي والمعيشي للمواطن) وإعطاؤها الأولوية المطلقة بين تلك القضايا المترابطة عضوياً، يجعلنا أمام «علمانية» مجردة، دون سياق تاريخي أو سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي... «علمانية» ميتافيزيقية لا يمكن تصنيفها إلا كهوس ديني معكوس... فكرة طائفية جديدة تقسِّم الناس في ثنائيات ضدية عجائبية في أحاديتها وسطحيتها (إسلامي/علماني، ظلامي/تنويري). عندها لن يجد أتباع الطائفة الجديدة ضيراً في الانسحاب من المجتمع «الضال» والالتجاء إلى ورشهم المغلقة. هكذا لم يبق لـ«علمانية المشرق» مكان سوى قاعات بيت العقاد الضيقة (رغم رحابتها التاريخية).

نعود إلى جلستنا المتحفزة في بيت العقاد، ونحن نراقب مخاض ذلك الجبل العظيم الذي تبدو لنا من على قمته القامات العالية لأساطين العلمانية المشرقية، وإذ بذلك الجبل ينجب لنا فأراً جميلاً كفئران التجارب البيضاء، فورشة العمل المغلقة كانت أشبه بحديث أصحابٍ في مقهى، وسادة الفكر النقدي أمطرونا بأحاديث عائمة لا رأس لها ولا ذيل، مع سطحية واضحة في الطرح وغياب البعد المعرفي (نستثني هنا محاضرة الدكتور فهمي جدعان «هل يمكن قيام علمانية إسلامية؟»)، وتسويق واضح لتجربة حزب «العدالة والتنمية» التركي (الذي يبدو أنه أصبح النموذج الذي تسعى دول المركز إلى الترويج له في العالم الإسلامي) دون أية دراسة جدية لمنطلقات هذا الحزب وتاريخه، أو لخصوصية الوضع التركي.

نغادر بيت العقاد وابتسامة المنظمين الجميلة تشيعنا، نمضي في دروب المدينة القديمة متأملين المواضع التي كانت فيما مضى الحاضن للنشاط المدني والثقافي والسياسي في سورية، قبل أن يصاب المثقفون بلعنة المقهى المغلق، والجماهير بداء الإبعاد عن الحياة العامة... وقبل أن تُفرَّغ مدننا من مدنيتها.

آخر تعديل على الإثنين, 28 تشرين2/نوفمبر 2016 22:05