بين قوسين المنقَّبات.. والمنقَّبون!
ثمة منقَّبون من شتى الاختصاصات والأنواع والانتماءات والمناصب والمنابر... تملأ أطيافهم الشبحية البلاد، ويقفون في الظل يرعون تناهبها جهاراً نهاراً، ويعيقون تطوّرها، ويفقرون أبناءها ويجهّلونهم، ويضيّقون عليهم من النواحي كافة، ويخنقون آمالهم وتطلعاتهم وحقوقهم، ويجردّونهم من مكاسبهم البسيطة التي حققوها بالعرق والدم والصبر، ويسطون على دخولهم المتناقصة، ولم نسمع أو نقرأ حتى الآن عن محاولة جدية واحدة لكشف لثامهم، ولا عن أي «إجراء إداري» بحقهم.. وليس هناك ما يشير إلى احتمال حدوث ذلك قريباً..
ثمة منقبون يعرقلون إصدار القوانين المأمولة التي لا يمكن للبلاد أن تسير خطوة واحدة إلى الأمام دونها، ويبذلون ما بوسعهم للإبقاء على المكروهة البالية التي أنهكت الناس وشرعنت للاستخفاف بكراماتهم وحقوقهم، ويستصدرون الجديدة المنحازة كلياً للأثرياء الجدد الذين أطلت ملياراتهم بأعناقها فجأة بعد انتهاء زمان الشعارات الطنانة، ويحاولون بين الحين والآخر جس نبض الشارع عبر تسريب مشاريع قوانين رجعية لوسائل الإعلام لقياس مدى حدة رفضها أو قبولها..
ثمة منقبون في التخطيط، ما فتئت البلاد نتيجة خططهم وبرامجهم تئن وتنضب وتتلوث وتخسر ثرواتها الحيوية وقيمها الإنسانية، وتسير إلى الخلف في مختلف المجالات، وتزداد غربة أبنائها عن معاني المواطنة والانتماء..
ثمة منقبون في الإعلام يتيحون كل الفرص والمنابر لقارئي الطالع ومعلمي الطبخ والنفخ والتجميل والتنحيف والتغريب والتسطيح والتطبيل، ولمنتجي ومروجي الأغاني والأفكار و«الآداب» الهابطة، وللمنظرين العضويين للتخلف والعدمية ومعاداة المرأة، ولخالقي وموسّعي فوالق الانتماءات الضيقة ما قبل الوطنية.. ولا يسمحون لصوت مثقف واحد أن يصرخ: حذار.. حذار.. إننا نمضي إلى الهاوية!
ثمة منقبون «تاريخيون» في الإدارة المحلية، قامت كل العشوائيات المخنوقة والأبنية المتصدعة والملاحق المخالفة في قمم بنايات العاصمة والمدن الكبرى تحت رعايتهم، واعتُمدت المخططات التنظيمية المشبوهة، وقُطعت أشجار الغوطة، وحرقت غابات الساحل، وأتلفت واحات ومحميات البادية، وشُيّدت القصور والمرابع الليلية الفارهة بفضل سطوتهم ونفوذهم، والحبل على الجرار..
ثمة منقبون في قطاع التعليم ما انفكوا يزيدون مناهجه وكوادره قصوراً وتخلّفاً ورجعيّة، وقد استطاعوا في السنوات الأخيرة أن يجعلوا الحصول على مقعد في كلية حلماً بعيد المنال بالنسبة للغالبية الكبرى من أبناء الفقراء، الذين يتزايدون يوماً بعد يوم، وينحدرون باطراد إلى حضيض الإدقاع والإملاق..
ثمة منقّبون في قطاعات الطاقة و«الهواء» والتجارة، يملؤون خزائنهم العابرة للحدود والقارات كل يوم بشتى ألوان العملات، ولا يتركون للناس ما يدفئهم أو ينبت زرعهم أو ينير دروب أطفالهم، ولا يقدمون لهم ما يجعلهم يشعرون بأنهم مواطنون وليسوا قطيعاً.
ثمة منقبّون متنوعو المرجعيات ينتشرون في شوارع أحياء القرى والمناطق والمدن، يعبثون يومياً بالوحدة الوطنية من خلال التشبيح أو الانغلاق أو التزمت أو اختلاق الاختلافات أو تعزيزها، وتشويه صورة المواطن الآخر واستفزازه..
يمكن بيسر شديد رصد حركة جميع المنقبات في طول البلاد وعرضها، ومتابعة نشاطهن ومعرفة كل تفاصيل حركاتهن وسكناتهن، فهن ببساطة متناهية، يسفرن عن أنفسهن من خلال نقابهن، ويسفرن بالتالي عن عقيدتهن وانتمائهن وطموحاتهن، هنّ وأولياء أمورهن «الشرعيون» العلنيون والمجازيون من الدعاة.. وبغضّ النظر عن أسباب وخفايا ومعاني وأسلوب وتوقيت وجدوى «الإجراءات الإدارية» التي صدرت بحقهن، إلا أن أيّاً من «الإداريين»، المنقبين بدورهم، لم يسأل كيف تمت إعادة إنتاج وتفعيل ظاهرة «المنقبات» بنسختها «المعاصرة»؟ ما هي الظروف والمناخات والسياسات التي أدت وتؤدي إلى ولادتها واستمرار تكاثرها؟ من المسؤول عن تعاظمها؟ ما دور كل ما سبق من آثام منقّبة في دفع فئات من المجتمع نحوها؟
المنقّبون في بلادنا كثر.. أقلّهم خطراً أولئك الذين نراهم بالعين المجردة..
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.