بين قوسين بعد عقدين..
الشعوب التي ارتدت «الجينز» ودخّنت الـ«مارلبورو» وأكلت «البيتزا» و«الهوت دوغ» وسمعت أغاني «الروك» و«البوب» ورقصت الـ«بريك دانس»... بعد طول حلم وانتظار، سرعان ما اكتشفت أن ما خسرته في طريقها لملامسة هذه الأحلام «الإنسانية» الصغيرة البسيطة كان عظيماً.. كان أكبر من أن يجعلها تستمتع بأحلامها المتراكمة، أو أن تحصل عليها أصلاً..
النساء اللواتي لم تعرف مجتمعاتهن الحديثة الدعارة بوصفها معبّراً عن القهر والانسحاق الطبقي، النساء اللواتي حلمن بالحرية والملابس القطنية ورؤية العالم الفسيح من نوافذ السيارات الأوتوماتيكية، أصبحن بين يوم وليلة مشردات في أرجاء المعمورة، يبعن الملابس المهرّبة خلسة عن عيون العسس في الدول الرأسمالية، والنامية، والمتخلفة، أو يبعن أجسادهن في البارات والحانات نهاية كل سهرة، ليستطعن البقاء، مجرد البقاء، يوماً إضافياً..
الشباب المتعطشون للانعتاق والتخلص من الملابس الموحدة والأحلام الموحدة والطعام الموحد والأجر الموحد والأسر الموحد والنقل الموحد، الشباب الذين كفروا بالرأي الأوحد والتلفزيون الأوحد والشعار الأوحد والزعيم الأوحد... باتوا أعضاء في عصابات أو عاطلين عن العمل أو مدمني مخدرات أو أدوات رخيصة في الاستثمارات الجديدة، يعملون ضعف عدد الساعات بلا ضمانات، وبلا رعاية صحية أو اجتماعية أو روحية، وبلا أي شعور بالاستقرار والأمان.
الأطفال الذين كانت لهم الأولوية في كل شيء، الأطفال الذين كانوا ملوك مجتمعهم.. أصبحوا بلا آباء، وبلا مجتمع، وبلا حقوق، ونصفهم تقريباً أحجم عن الوجود!.
فهل كان مجتمع مشروع العدالة الذي انهار لأسباب أخرى أعمق وأعظم، عاجزاً عن التعامل مع الأحلام البسيطة للناس، الأحلام التي تم تصنيع معظمها في مخابر العدو الطبقي لهم، وهو الذي قدّم لهم كل حاجاتهم الأساسية الحقيقية مجّاناً؟ هل كان ينقصه الوعي والبصيرة والتواضع الإنساني فلم يدرك أن معالجة هذه التفاصيل، صغيرها وكبيرها، عميقها وعائمها، يمكن أن يخلق جيشاً لا يقهر للدفاع عن الفكرة والمشروع والمكتسبات الحاصلة بالدم والعرق والصبر؟
لقد مر عقدان تقريباً، سقطت فيهما الكرامات الوطنية والإنسانية على حوافي «الحرية» المزعومة، وضاعت فيهما الحقوق والضمانات عند واجهات مطاعم الوجبات السريعة و«المولات» الكبرى وأمام أبواب الشركات العابرة للقارات، وانهارت القيم الإنسانية والاقتصادات الوطنية تحت ضربات الأفكار والإجراءات النيوليبرالية وجشع وتمركز رأس المال وتسليع البشر.
مر عقدان، وقف فيهما العالم على قدم واحدة، وجرت خلالهما أحداث ما كانت لتحدث لو أن الانهيار لم يقع.. حربان عالميتان ضد شعب العراق، وثالثة ضد شعوب يوغسلافيا، ورابعة ضد ثلة من المقاتلين في أفغانستان، وحرب مستمرة ضد الفلسطينيين والصوماليين الجوعى، وضد المقاومة اللبنانية، حروب تجويع ضد شعوب أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا، حروب ملوثة عنصرياً ودينياً ضد «الملونين» والمسلمين، حروب تفكيك في البلقان والشيشان وقزوين والبحر الأسود، حرب دائمة ضد البيئة، حرب بيولوجية متجددة ضد الفقراء، حرب وشيكة على إيران، حروب على الطاقة، وعلى الثروات، وعلى الأراضي.. حروب من أجل الحروب أملاً في نجاة الرأسمالية من أزمتها الخانقة.
مر عقدان على الانهيار الكبير، ورغم ذلك، لا أحد من المسحوقين بأحلامهم يريد العودة للوراء كما كان ذلك «الوراء».. لا أحد يريد العودة لفجوات ونواقص ومناخات ونمطية وقسرية تجربة العدالة، التي اجتاحتها الكارثة بعد أن فتكت ببنيتها الأمراض والمؤامرات والنزعات الانتهازية ومحدودية الرؤية..
ما يزال الناس يحلمون بمجتمع العدالة وقد استبد بهم الجوع والفقر والبطالة والتهميش أكثر فأكثر، ما يزالون على استعداد للقتال والتضحية من أجل تحقيقه، والمناخ مؤات، والعدو منهك، لكنهم الآن بلا طليعة، بلا بوصلة، بلا تصور واضح عما يمكن فعله للسير نحو أحلامهم، بانتظار أن تستفيق القوى الثورية من سباتها الطويل، أو يولد جديدها العتيد، فيأخذ على عاتقه المضي بالحلم البشري إلى فضاءاته المأمولة..
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.