في ذكرى صمود غزة... أمَا آنَ لثقافة الهزيمة أن تنتهي؟؟
فرضت الهزائم العسكرية العديدة التي تعرض لها العرب في القرن الماضي إحساساً دائماً بالهزيمة لدى المواطن العربي، وترافقت مع تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ومع فشل جميع الأنظمة العربية، والأحزاب «التقدمية» في إيجاد حلول لمشكلات المجتمع العربي المستعصية، مما رسخ هزيمة نفسية وعقلية في ذهنية المواطن العربي، سواء على مستوى الشارع أو على مستوى النخب.
ولكن تحولاً كبيراً حصل في مجريات المواجهة العسكرية المفتوحة بين العرب وكيان العدو في مطلع القرن الحالي، وبدأ هذا التحول مع اندحار جيش الغزاة عن أرض الجنوب اللبناني تحت ضربات المقاومة، وتعمق في حرب تموز 2006، وبدا أكثر سطوعاً في صمود غزة المحاصرة أمام همجية الآلة العسكرية الصماء لأقوى جيش في المنطقة. إلا أن هذا التحول النوعي لم يرافقه تراجع حقيقي في ثقافة الهزيمة لدى المجتمع العربي ونخبه الثقافية، التي لا تزال في معظمها عاجزة عن السير في طريق بناء ثقافة وطنية حقيقية، وعن تجاوز حالة الهزيمة الثقافية، التي رافقت كل أشكال التردي الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. حيث لا تزال أغلب النخب الثقافية العربية مستسلمة لحالة الانعزال عن المجتمع، ولسيل العولمة الجارف، كما أنها لا تزال مستسلمة للخطوط الحمراء التي فرضها الخطاب السلطوي الأحادي في ميدان الثقافة. حتى إنها لم تنجح في استثمار ما أكدته إنجازات المقاومة، من إمكانية هزيمة كيان العدو، ولم تعمل بشكل جدي على تحويل هذه الفكرة إلى قناعة راسخة في ذهن المواطن العربي. بل يمكن القول إن الشارع سجل أحياناً بعض التقدم في هذا المجال على النخب، وهو ما يدفعنا إلى التشكيك في حقيقة كونها نخباً فعلية بما تعنيه كلمة نخبة، من حيث كونها القادرة على قيادة دفة المجتمع، ودفعه إلى الأمام كما يفترض.
وإذا كان صحيحاً، أن من أبرز أسباب الهزائم العسكرية العديدة للعرب، كان الهزيمة النفسية المسبقة للمواطن العربي المهمش، والمجرد من أغلب حقوقه، والمبعد قسراً عن إمكانية المساهمة في صنع القرار، أو بعبارة أخرى البعيد عن ممارسة المواطنة الحقيقية. فإن ما ظهر من إبداع في ميدان المقاومة بإمكانات متواضعة، يثبت أن الهزيمة ليست قدراً عربياً محتوماً، وإنما هي مرحلة عابرة ستنقضي بحكم قوانين التاريخ والواقع، وبالتالي كان يفترض في المثقفين العرب، أن يتفاعلوا مع المقاومة الشعبية المنظمة، التي تجاوزت الخطوط الحمراء، وتجاوزت الهزيمة، وتمكنت من تسجيل صمود مشرف في مواجهة الهيمنة والاحتلال والقهر. وكان يفترض أن تدفع النخب العربية مجتمعاتها مربعاً إلى الأمام، من خلال نقل المقاومة من ميادين المواجهة العسكرية، إلى ميادين المواجهة المجتمعية والثقافية لقوى العدوان والنهب والاستبداد، وأن تعمل على تكريس ثقافة المقاومة ثم الانتصار، كبديل حقيقي عن ثقافة الهزيمة والاستسلام.
ليس صحيحاً أننا عاجزون عن خلق مساحات لفعل ثقافي حقيقي، وعن العمل على الخروج بخطابنا الثقافي من أسر السلطوية من جهة، والتبعية للآخر من جهة أخرى. وليس صحيحاً أننا عاجزون عن السير في طريق تحرير مجتمعاتنا من التخلف والفقر والتعصب، وتحصينها لتتمكن من الانتصار على مشاريع التفتيت والتمزيق والهيمنة. تماماً كما أثبت رجال غزة قبل عام من الآن، بسلاحهم المتواضع، وفي ظل حصار خانق، أننا قادرون على التصدي للهجمة الإمبريالية العسكرية وردها على أعقابها، إذا ما خضنا المواجهة جميعاً كما يفترض بنا أن نفعل.
إن نقل المقاومة الى آفاق وأبعاد جديدة، وحتى إلى أماكن أخرى بالمعنى الجغرافي، مهمة تاريخية ملحة، ويقع على عاتق النخب الثقافية والسياسية واجب البحث عن الأسباب الحقيقية الكامنة وراء عدم إنجاز هذه المهمة، لأن تحليل الأسباب وفهمها هو المقدمة الصحيحة والمجدية للانتقال الى إيجاد الحلول. وإذا كانت الطبيعة الفئوية للفكر الذي تحمله فصائل المقاومة الرئيسية التي تقود الفعل المقاوم على الأرض العربية اليوم، عائقاً أمام تصدير ثقافة المقاومة، وإنهاء ثقافة الهزيمة، فإن النخب المثقفة على امتداد الأرض العربية، هي التي يجب أن تتصدى لمهمة تجاوز هذه الاشكالية، لأن المقاومة المسلحة تصدت لمهمتها الميدانية بكفاءة وقوة، ويبقى على الآخرين فهم الأبعاد الحقيقية للمعركة، والقيام بدورهم في الانقلاب على ثقافة الهزيمة، والسير في طريق مسحها من العقلية العربية.