جهاد أسعد محمد جهاد أسعد محمد

بين قوسين النُّخَب والناس والمونديال.. وغزة!

الفرص القليلة أو النادرة، التي أتيحت لجماهير دويلات «سايكس بيكو» لتعبر عن انتمائها الوطني بالمعنى العابر للحدود غير التاريخية، أثبتت فيها بالقول والفعل أنها تملك من الحماس والغضب والصدق والثقة والحميّة وسعة الأفق والاستعداد للتضحية ما يفوق كل شعارات أصحاب الشعارات، الذين هم أنفسهم من يلجمون هذه الجماهير، ويضللونها، ويؤرّضون فورتها، ويغرقونها بالفقر والتخلّف والعدمية، وييئّسونها، ويمنعونها من الانخراط الكامل والفعّال في المعارك والتحديات الوطنية..

هذه الجماهير المحرومة قسراً وترهيباً وتسطيحاً وتجويعاً وإلغاءً من الانعتاق والتحرر والتنوّر، هي التي قاومت الاستعمار حتى طردته، وهي التي حملت السلاح تطوّعاً في حرب فلسطين، وهي التي نزلت بشكل عفوي إلى الشوارع مترعة بالغضب والرغبة بالانتقام عندما سقطت القدس، وبيروت، وبغداد... وهي التي صرخت: «الله أكبر» مع احتراق كل ميركافا، أو سقوط أي صاروخ على المستوطنات الصهيونية في حرب تموز متمنية لو أنها في الميدان، وهي التي صلّت وتظاهرت واعتصمت وتبرعت بقروشها القليلة لتستمر غزة في المقاومة والصمود، وهي التي ما انفكت تنتظر فرصة أشبه بالحلم المستحيل للالتحام مع العدو في معركة واحدة حاسمة ونهائية.

هذه الجماهير هي نفسها التي ما تزال منذ زمن طويل تتلقى تقريعات واتهامات وشتائم «المثقفين» و«النخب»، فهؤلاء ما برحوا ينظرون إلى أهليهم بوصفهم خانعين صاغرين متخلفين، ويتعاملون مع البسطاء اللاهثين وراء أرزاقهم على أنهم رعاع وجهلة، ومع الشباب على أنهم تافهون ومسطّحون، ومع البنات على أنهن مشاريع محجّبات وربات منزل ودمى للمضاجعة.. وتزداد لهجة المستكبرين على الناس لؤماً وتعالياً واستخفافاً مع كل مناسبة تحاول فيها الجماهير المكبوتة التعبير العفوي عن رأيها، أو التفاعل مع حدث «تافه» ما تحت ضغط الإعلام ومناخ الاستهلاك العولمي. والآن، مع اقتراب المونديال، وما يرافقه من تفاعل شعبي يتمظهر برفع أعلام دول بعض الفرق القوية المشاركة فيه، تشن «النخب» هجمات تخوين كبيرة على الناس مكررة الاتهامات «الكلاسيكية» ذاتها، ومنبهة من خطورة ذلك على الانتماء الوطني والاستقلال الوطني والأهداف الوطنية السامية لكل دويلة، أو للمؤسسات «الجامعة» التي «تزربها» في حظيرة واحدة «تابعة»، بينما لا همّ للناس حقيقةً سوى الحصول على بعض التسلية، ووضع آمالهم (المعمول جدياً على إحباطها واقعياً) في تشجيع فرق لم يحصل أن خسرت (5 – 0) أو (6 – 0) أو (7 – 0) أمام أحد، وتبقى تقاتل للفوز في أحلك الظروف.. وحتى النهاية!.

وللمفارقة، فإن هذه الجماهير التي كانت تنتظر المونديال بفارغ الصبر لتشجع برمّتها الجزائر أولاً، لأنها الجزائر!!(؟).. ومن ثم ستنقسم بين البرازيل والأرجنتين وإيطاليا وإسبانيا وهولندا وألمانيا... نسيت فجأة المونديال وأخباره ونجومه، وأهملت أعلام فرقه عندما اعتدت الأيدي الصهيونية الآثمة على أسطول الحرية لكسر الحصار عن غزة، وانتقلت فجأة من «الجزيرة الرياضية» ومن محاولة فك طلاسم أقنيتها الاحتكارية المشفّرة، إلى القنوات الإخبارية لتتابع تفاصيل الحدث الأهم وتداعياته، وهبت شرائح واسعة منها إلى الشوارع للتظاهر والاعتصام والتنديد بالجريمة والمجرمين والمتخاذلين، أما النخب فقعدت كعادتها تمارس التنظير.

لاشك أن محاولات تضليل الجماهير وتجييشها وتعبئتها للانزلاق إلى مواقع ليست مواقعها هي عملية خطيرة يتم تغذيتها وتصعيدها صهيونياً وإمبريالياً كل يوم، لكن المشكلة ليست لديها، فرغم كل التهميش والتمييع وتوسيع الفوالق أو اصطناعها ما تزال بالحد الأدنى تميّز بين العدو والصديق، وتتعايش فيما بينها محترمة الاختلافات، بل إن المشكلة لدى النخب نفسها، فهي التي تهتز وتتلون وتتأرجح باختلاف المناخات والظروف وموازين القوى، وهي التي تباع وتشرى، وهي التي سرعان ما يبتلعها اليأس أو تجتذبها الإغراءات وأبواب السفارات..

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.