جهاد أسعد محمد جهاد أسعد محمد

إعلام «رجال الأعمال»..

أكثر من يقدّر أهمية الإعلام وجدواه وتأثيره، هم أولئك الذين يعرفون تماماً ماذا يريدون من وسائل الإعلام، ويدركون مدى فاعليتها وما الذي يمكنها أن تقدمه لهم في سعيهم لتحقيق أهدافهم القريبة والبعيدة المخطط لها بدقة ورويّة.. فهؤلاء لا شيء مجانياً أو عشوائياً عندهم، وكل كلمة أو صورة أو إعلان أو خبر أو تحقيق أو تعليق أو تغافل عن حدث... له منطلق وسبب وتوقيت وأمل بجدوى..

هنا، في الخريطة الإعلامية السورية (في الداخل) الآن، وبعد سنوات طويلة من سيادة أحادية الإعلام بكل ما أنتجه ذلك من سذاجة إعلامية وإعراض شعبي عن وسائل الإعلام الرسمي وعن خطابه المتخلف شكلاً ومضموناً، وبعد الانفتاح النسبي إعلامياً المشوب عمداً بغياب قانون إعلام محدّث وشامل، والذي أفرز مناخات مفتوحة للتضليل الممنهج، لا ينطبق الكلام الاحترافي - الوارد أعلاه- بحرفيته إلا على وسائل إعلام محددة، تجذب الناس بمستوى عال من السيمياء المتطورة وتعطي ظهرها لهم.. ونعني هنا الدوريات الورقية والمواقع الإلكترونية التي يرعاها ما باتوا يُعرفون باسم «رجال الأعمال»، وهو الاسم المخفف والعصري والأقل تنفيراً لـ«الرأسماليين» بشقيهم، الكلاسيكيين الذين هربوا بما تيسر لهم من أموال منهوبة تاريخياً أيام التأميم والإصلاح الزراعي وعادوا مع رساميلهم مع هبوب رياحهم مجدداً، ومحدثي الثروة من الثوريين «السابقين» وأبنائهم وأحفادهم وأقربائهم وأصدقائهم الذين سطوا على المال العام، وحلبوا الشركات والمؤسسات والمشاريع العامة وأملاك الدولة حتى جففوا ضروعها..

«إعلام رجال الأعمال» هذا ذو النفوذ الواسع في الأوساط الحكومية، وخاصة الاقتصادية منها، قد يكون الوحيد المحدد الأهداف الذي يسخّر كامل منظومته لخدمة مآربه، إلا إذا استثنينا منبراً أو منبرين يقفان في الخندق المواجه بمنظومة متكاملة أيضاً، وقد دخل إلى الملعب الإعلامي الشاغر تقريباً للسير نحو طموحاته الكبرى وهو يمتلك إمكانات مالية كبيرة جداً، فاقتنى أفضل التجهيزات والمعدات والوسائل التقنية، ووظّف عنده عدداً كبيراً من المحررين والفنيين والمراسلين الشباب الباحثين عن عمل أينما كان، بالإضافة لاستعانته بأسماء «لامعة» من الإعلاميين «المخضرمين» الذين تربوا في حضن الصحافة الرسمية عندما لم يكن على الساحة سواها، وساهموا كثيراً في إنتاج الرداءة الإعلامية لسنوات طويلة، قبل أن يخلعوا ثوبهم «القومي اليساري» ويلتحقوا بإعلام المال ليقفوا «أيمن» يمينه بعد أن أجروا على أنفسهم ما يلزم من «تحسينات» جذرية طالت أشكالهم ولغتهم وإيديولوجيتهم..

وبينما ظلت معظم وسائل الإعلام الرسمية وصحف الجبهة ودوريات المنظمات الشعبية تتخبط في أدائها، وتعمل بشكل ارتجالي كما في سنوات الأحادية، وتصب خلاصة نتاجها غير المنسجم أو المتناغم في خدمة سواها جهلاً أو اختراقاً، راح إعلام «رجال الأعمال» يمضي بخطوات مدروسة نحو غاياته، وراح صوته يعلو شيئاً فشيئاً وهوامشه تتسع باطراد، مستفيداً من موجة النيوليبرالية التي عمّت، وما تزال تعم البلاد رغم الكوارث الناتجة عنها، ومن أخطاء فادحة في السياسة الإعلامية الرسمية السائدة..

في البداية، بكى إعلاميو المال على البرجوازية «الوطنية» التي ذبحتها أفكار وإجراءات «التطور اللارأسمالي» التي بدأت في أواسط القرن الماضي، مصورين برجوازيي ذلك الزمان بوصفهم ملائكة آذاهم ظلم الرعاع والشياطين واللصوص، بعدها راحوا يهللون للانفتاح والتحرير والخصخصة والشراكات وعودة المستثمرين «الوطنيين» الذين تسحقهم البيروقراطية وتعيق استثماراتهم وتضطرهم للتهرب الضريبي والتهرب من التأمينات الاجتماعية والإتجار بالمخصصات، ثم شرعوا بالترويج لأسماء ومشاريع وأفكار لن يحصد منها الناس سوى المزيد من الجوع والفقر والألم، ليصلوا اليوم، وقد سمحت الظروف باعتقادهم، إلى حد المطالبة بمنح «رجال الأعمال» أوسمة، وتسمية الشوارع والساحات بأسمائهم، وتوجيه ما يشبه الإيعاز للوزراء بشكرهم والاعتراف بأفضالهم العظيمة..

السؤال هنا: هل أصبح قريباً ذلك اليوم الذي سينادي به هذا الإعلام بفتح الطريق أمام «رجال الأعمال» لتولّي السلطة السياسية بعد أن استطاعوا فعلياً أن يبسطوا هيمنتهم شبه المطلقة على الاقتصاد الوطني؟

إذا كان إعلاميو المال يعتقدون أن ذلك بات وشيكاً فإنهم موعودون بخازوق سوف يخرج من قحف رؤوسهم، لأن المجتمع بقواه الحية لن يبقى حينها واقفاً يتفرج..

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.