مطبات فجيعتنا..
إنها روتانا التي طالما أنهكتنا ببرامجها التي لا تغمض الجفون من هولها وجمالها، روتانا التي طالما جلدتنا بحوارات ونقاشات مثيرة عن الجنس، والحرية، والمرأة، وفتحت النار على المحرمات العربية، وقدمت لنا سذاجاتنا على أنها خرجت لتوها من كرنفال الأوسكار.. روتانا التي ذبحت على شاشاتها المزينة بشعارات حمراء وخضراء وصفراء ذوقنا العام، وتركت لنا نافذة وحيدة للتراث لاكته طوال سنواتها المديدة، وعرّفتنا دون التفاف على أجساد من رخام، وآهات تصعد من البطن على الحلق، وأفخاذ تسلب العيون قبل الآذان.. روتانا بغنائها و(كليباتها) العاتية، بالسينما المكررة التي مرغنا بها أحلامنا زمن القنوات الأرضية، وتلذذنا بفاتناتها في سهرات الخميس، واحتكمنا إلى أهلنا في شتم العري والرقص، الماجنات، وفي سرنا كنا نحلم بلقطة خارج الرقيب والمقص، أو قبلة من نور الشريف على شفاه النجمات والزوجات والعشيقات، هذا من زمن فتى الشاشة، ووحش الشاشة، و(كازانوفا) العرب.. روتانا بالحلال والحرام، باستقبالات الحرملك للرجال الساخطين على ذكورتهم، والنساء الساخطات على أنوثتهن، الحرملك الهارب من سنوات الحرمان إلى عصر الانفتاح على الممنوع، وهذيان القابعين بينهما.. هنا تعدت هالة سرحان على الحقيقة الإعلامية، ورمت ببشاعة وراء ظهر الكاميرا الجريئة براءات فتيات استخدمن للصفقة.
في روتانا قدم المائعون ثقافتهم، وقلدوا حفلات البث على قنوات (الهوت برد) بلغتنا.. بلغتهم، استعاروا منها أرديتهم ولسانهم وصدور مقدماتهم، وسراويل المذيعات العابرات، والمذيعون المتزنرون بلكناتهم، وأحاديثهم المحشوة بمفردات الاعتذار واللباقة والكياسة والتحضر.
رغم كل ما فعلته بنا تلك القنوات العربية، قبلناها لأنها من نتاج أيدينا وجديدنا، قبلناها على علاتها، قبلناها في صدر بيوتنا، تمايلت النسوة على إيقاعاتها في المطابخ، ألبست الأبناء (بناطيلها وتنانيرها)، وعلمت جيلاً كاملاً كيف يمكن أن تغني محطة على إيقاع هابط بينما الطائرات تعلن موسم الدماء في جنوب لبنان وبيروت، وكيف تتعانق (الكليبات) الماجنة بينما يدق شارون بعصاباته أعناق الفلسطينيين المدافعين عن الأقصى، كيف تنهال القبلات في أضوائها وبغداد تتداعى أمام ضربات البارجات والمارينز، وكيف يتقلد المغامرون الجوائز والفوسفور يحصد الصغار في أحياء غزة... رغم ذلك هي فعلتنا ونقبلها.
الآن... تكتمل اللعبة التي كانت كالعادة من خلف ظهورنا المنحنية، تأتي الصفقة المقدمة لبيعنا، لبيع ما لملمته روتانا من تاريخنا، وبيع ما شتتته منا، ما أبقت عليه منا، روبرت مردوخ اليهودي وضع يده على عشرها، على عشرنا، في الصفقة التي تهيأ للتسعة أعشار المتبقية منها وليس منا، وربما في حفل قريب سيرقص بانحناءات (الحيط) المقدس علينا، نحن (الغوييم) الآخرين ممن لا أصل لنا، لا قدسية للحمنا ودمائنا سوى ما يمكن أن يصير حساء في فطير صهيون.
سوف ندعو لزمن مضى، لأيام زمان، لروتانا زمان، سنرثي أيام روبي وهيفاء ونانسي، ويخرج من بيننا نحن (الغوييم) سلالات تقدس التفاهات الأولى لعصر روتانا، وتصلي للذاهلين من الرقص المبدع لمرودوخ القادم إلينا من شاشاتنا الخضراء، من عباءاتنا، من لون بشرتنا المحروق وعرقنا المتعفن، سوف نذكر بكثير من الشكر أياماً خلت، سقى الله أيام القنوات التي لا تصل سوى عبر هوائيات الأسطح الفقيرة، سنلعن العلم الذي لم يخدمنا إلا (بالدشات)، والأقمار الصناعية التي لا ترسل إلينا سوى هويتنا الجديدة، وموبايلات الثريا، والمحول المتجول، وأنترنت الدردشة، والمواقع التي تجعلنا ساخطين على الذاكرة والخصوصية والهوية.
مردوخ اللعين سيرقص في عَشرته، ويخطب فيها، ويبث فيها من حصته ما يجعل دائرتنا أضيق من شوارع المدينة القديمة... في حصة مردوخ سنرى قدساً جديدة، حواري يسكنها شباب مجدولو الشعر، وقبعات لا تغطي الرأس، وأقصى محاط من فوقه ومن تحته ومن جهاته إن بقيت بأحفاد القتلة.. مردوخ يرقص بيننا.. لنا.
■ عبد الرزاق دياب