محمد صالح خليل لاجئاً إلى عوالم الجسد
« إن الفن قوة مشكّلة قبل أن يكون جميلاً»...
• (جوته)
الفنان محمد صالح خليل، والذي أقام معرضه في جاليري «المحطة»، كان من الفنانين القلائل على المستوى الفلسطيني، والذين اخترقوا الإطار الاجتماعي المتخلخل أصلاً، ليكون أكثر إيماناً وقوة بمنطقه الفني وقدرته التكتيكية بمعالجة موضوع جدلي فلسفي إنساني، وهو الجسد، إذ يعتبر الجسد في بنائنا الاجتماعي من الأمور الحساسة والتي يصعب تناولها أحياناً بمواضيع فنية مباشرة، ويرجع أحد الأسباب الرئيسية بذلك للحروب والنكسات التي أصابت الشعب الفلسطيني عبر مراحله التاريخية الطويلة، مما دفع الفنانين للتفكير بنهج جماعي توعوي أو وطني رمزي، ولكن بعد كل هذه المراحل جاء محمد صالح ليفجر هذا الشائك ويطرح تساؤلات أمام الجمهور الفلسطيني.
الموضوع الذي أثاره الفنان صالح، ليس موضوعا مفاجئاً ولا جديداً قياساً لمستوى التراكم الفني والتجربة الفنية العالمية، ولكنها قد تكون مفاجئة على مستواها المحلي الضيق، إذ فاجأ قليلي التجربة والخبرة البصرية تحديداً، حول السؤال الحاضر دوماً: الجنس.. وإذا تتبعنا الحالة الداخلية للإنسان يتبين أنه بفطرته لا يرفض هذا المنطق، لأنه وبكل بساطة منطق وجودي يدّعم فكرة البقاء، ولكنه خجل من الناحية النفسية المباشرة بحكم تعّود العين على التلقي، أي وضع الجمهور أمام هذه الصورة الإنسانية العارية يخلق قلقاً حذراً لعدم وجود تجربة مسبقة وصحية أيضاً للمتذوق الفني، الذي يعتبرها بمعظم حالاتها أنها خدش للحياء، على أن هذا الموضوع متداول على مستواها الإنساني الفيزيائي والنظري والبصري أيضاً، وتركيب الازدواجية (المزدوج) لكافة الأشكال الطبيعية يأتي عادياً من عامة الناس، مجرد إحساسهم بتشابه أو تطابق الشكل العام. أما حينما يصل الفن فيصبح إشكالية.
جاء معرض «هندسة الجسد» للفنان صالح، مزيجاً ما بين الرسم التعبيري تارةً والأكاديمي تارةً أخرى، وهذا الأسلوب قد يوقع الفنان في فخ الرضا الأكاديمي ان لم يكن ذكياً ومتمرساً على الإحساس الفني، ولا سيما حينما يتعلق موضوع الرسم بجسد المرأة، لما يحمله هذا الجسد من قيم جمالية عالية، قد تغري الفنان برسمها أكاديمياً على حساب القيمة الفنية، مقابل ذلك وخلال الممارسة الفنية التعبيرية قد يكون اللون والخط أحدالمُغريات التي تُقدم للفنان وبذلك يقل حضور الرسم، ويذهب أكثر نحو الاختزال. لكنّ صالح استطاع الحفاظ على توازن أفقي بين الرسم الأكاديمي والتعبيري، وبذلك نأى باللوحة عن إغرائها الجنسي، وارتقى بالعمل الفني وبمتذوقه لحالة أكثر تعايشاً بين نقيضين مركبين، جاء هذا التعايش من خلال قوة الخط، واللون، والبعد النفسي الجريء الذي تجلى في الاشتغال على عدم اكتمال الرسومات بالخط، بينما كانت ضربات اللون أكثر حرية وتجاوزاً للمساحات المحددة، بطريقة انفعالية منتمية للاوعي.
من ناحية تعبيرية نجد تقاطع الفنان محمد صالح مع الفنانين التعبيريين مثل راؤوه، في تجاوز الألوان الصامتة والشهوانية الشكلية برسم الجسد البشري، كما أن أجسامه الأخرى مرتخية ومنتفخة خاصة في رسم الوجوه، على أن نقاط الالتقاء الأخرى بين محمد صالح وغويا ودومييه، ساهمت بتجاوز أسلوبه للمحلي منتمياً لتاريخ عالمي في أسلوب المدرسة التعبيرية.
ثمة تركيز عال على الكآبة الإنسانية وظهر ذلك في وحدة شخوصه، بيد أن شخوصه المنفردين الممثلين للموت في تقاطع آخر مع الفنان مونك، وكلاهما تناولا موضوع المرأة، حيث تظهر شاردة هائمة العيون رغم إغرائية جسدها.
أما ألوانه فتعتبر ألوان ذات أسلوب ألماني، كما تعبر عن جرأة أكثر منها عند التعبيرية الفرنسية، فقد ثار التعبيريون الألمان ضد الأخلاق الاجتماعية البرجوازية وعقليتها.
تقاطع آخر بين الفنان صالح والفنان نولده في رسم الأجساد العارية، مقابل الوجوه اللامبالية والحزينة التي يغطيها اللون الرمادي المحزن، وهذه نظرة نولده حول مفهومي الجمال و القبح، إذ يرى أن القبح أكثر تعبيرا عن الجمال، لأنه تعبير عفوي وسريع، وقوي وجريء....
لا بد من التركيز على تجربة محمد خليل صالح كأحد الركائز الفنية المهمة في فلسطين، والذي ما زال يعيش هنا ويحافظ على نمط معين بالفنون التشكيلية البصرية، ومدى تجربته العميقة التي لا تنطوي تحت التجريب بقدر ما تعبر عن خبرة وتجربة أصيلة تضيف للتنوع التشكيلي الفلسطيني لوناً جديداً.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.