مطبات: الفاسدة

كان المتعهد (م. ش) مجرد عامل عادي في ورشة بناء منذ خمسة عشر عاماً، وفتح الله عليه من باب إذا أعطى أدهش، وهذا ما تقوله أمه العجوز لضيوفها الذين زاد عددهم بعد هذا الفرج، وتهمس في أذن جارة قديمة: والله يا أم محمود لم يكن بإمكاني تقديم فنجان قهوة لضيف، ولكن الله يرضى عليه لا يبخل عليّ بشيء، ولا ينقصني سوى رحمة ربي.

خلال خمسة عشر عاماً استطاع المذكور برضا الله ودعوات أمه أن يمتلك ثروة لإدارة مشاريعه الكثيرة في البنية التحتية، بالإضافة لسيارة (مرسيدس) محشوة بعلب التبغ والمشروبات الغازية والكحولية، ويساهم في تمويل الاحتفالات الوطنية والاجتماعية في البلدة، ويشارك في زيارات مسؤوليها في الأعياد الدينية، ويتصدر طاولات الولائم التي تقام لدى زيارة مسؤول ما، والطاولات في كازينوهات المنطقة في سهرات ما بعد منتصف الليل، وهو مثال يحتذى به في سرعة إنجاز المشاريع التي يفوز بها وفق القانون، وبعض الحاسدين يتحدث عن قبوله لمشاريع خاسرة من أجل فقط أن لا يدخل متعهد على خط تعهداته الحصرية.

المتعهد المذكور (وندخل في الجد) توقفت مشاريعه لأكثر من مرة لعدم مطابقتها للمواصفات، ولكن حاسديه يثرثرون في دفعه لرشاوى عينية ومادية، كما أن كل مشاريعه في البنية التحتية ساهمت في تحويل المدينة الصغيرة إلى مدينة  تعيش على وجه مستنقع وحفريات، وفي كل مرة يقترب القانون من النيل منه  تأتي نجدته من مصالح المتنفذين الذين غرقوا في عمولاته الكبيرة، ومدوا أيديهم ليده الممدودة بالمال.

وهنا بيت القصيد، ترى من يحمي هؤلاء؟ والإجابة على هذا السؤال تفضي للإجابة على أسئلة محيرة لمن يجاهدون لإيقاف حمى المخالفات والعشوائيات، وفي الوقت نفسه محاربة الفساد في أوصال المؤسسات والدوائر الحكومية.

يقول المهندس خالد الأحمد محافظ إدلب:  تم خلال العام الحالي إعفاء 57 رئيس مجلس وحدة إدارية من مهامهم، وذلك لتقصيرهم في تنفيذ القوانين والأنظمة وأداء مهامهم، ولعدم مقدرتهم على الارتقاء بالواقع الخدمي في وحداتهم الإدارية، ومن هؤلاء رؤساء مجالس أربع مدن.‏

أما لماذا تم إعفاء هذا العدد الكبير في محافظة واحدة فيقول المحافظ في الاجتماع الذي خصص لمناقشة واقع عمل وتقييم أداء مجالس المدن البالغ عددها 15 مجلساً في المحافظة: إن تدني نسب التنفيذ والجباية وتطور نمو الموازنات هو دليل على التقصير في العمل.

إذاً، خالف السادة الفاسدون الصغار القوانين والأنظمة، وكلنا يعرف أن المقصود هنا هي القوانين التي تتعلق بمخالفات البناء، من القانون رقم 1 للعام 2003 والقانون 59 لعام 2008 والذي تشدد في عقوبة المخالف، ومن يسهل هذه المخالفة.

ومنذ سنوات قليلة تم إعفاء ثلث رؤساء البلديات في محافظة ريف دمشق قبل انتهاء دورتهم، وفي مدينة صغيرة تم استبدال رئيس المجلس البلدي أربع مرات في دورة واحدة، ودائماً السبب واحد، مخالفة القوانين والأنظمة، تسهيل مخالفات البناء، والتواطؤ مع متعهدي البناء، وتجار العقارات.

الأجوبة التي نريدها عن الخلل في تنفيذ مشاريع البنية التحتية تكمن هنا، لماذا تتلوث مياهنا بالصرف الصحي؟ لماذا لدينا أكبر فاقد كهرباء، وشبكات مياه مهترئة لا تنفع معها القروض اليابانية وسواها، وتنهار الأبنية من طابق زائد، أو مواد بناء منتهية الصلاحية؟ لماذا لدينا أزمة عقارية مستفحلة، وروتين يجبر المواطن على دس يده في جيبه عند كل توقيع، ولدينا موظفون يذهبون بسياراتهم الحديثة إلى دوائرهم، ويقبضون المعونات، ودعم الوقود، والرشاوى؟.

الإجابة عن أسئلتنا الحائرة في أن لدينا رؤساء بلديات، مكاتب فنية، وكادر إداري.. يصنعون مجالس فاسدة.. ومدناً تستحق الرثاء.