ربما ..! واحدٌ من النّاس

صحيح أنه يمتلك صوتاً جميلاً، لكنّ الصحيح أيضاً أنّه لم يكن هناك منبر يحتضن هذه الموهبة، لا نسوق هذا طمعاً بكرم التلفزيون أو الإذاعة لأن بخلهما تجاوز سقوف «بخلاء» الجاحظ على من هم مثله، فحتى الأعراس أشاحت بوجهها عن جمعة العتّاك!!

حمل ذلك العراقيّ صخبه إلى الحارات والمقاهي والأسواق مغنّياً وراقصاً، في أحياء مدينته «المدائن»، فراح الناس يصوّرونه عبر كاميرات الموبايلات، ويتناقلون تلك الكليبات فيما بينهم، ربما بدأ الأمر بسخرية من نوع ما، لكن الانتشار الهائل لظاهرة جمعة العتّاك يؤكّد أن الجميع آمنوا وسلّموا بمقدراته الغنائية والأدائية العظيمة، فهو يمتلك كل ميزات الفنان بالمعنى الكلاسيكي، ويؤدي وظيفته الأولى باقتدار: إمتاع الناس.. نعم إنه أشبه بالشعراء الجوالين أو المهرج، إنه ذلك الشخص الذي ينذر نفسه قرباناً لفرح الآخرين، دون أن يكون فرحه هو ذا شأن عند أحد..

الآن بعد أن طَبَقَتْ شهرة جمعة الآفاق صار بالإمكان وضع اسمه على موقع «يوتيوب»، وستطالعون عدداً كبيراً من الكليبات، البدائية الإمكانيات، لكنها حارقة وحارة المضامين، لكونها تقول دون أن تقول؛ بينما يموت العراق ألف ميتة كل يوم، بين الاحتلال وكلابه السلوقية، ثمة أحياء فيه لا تزال طاقتهم على الحياة لا تحدّ بحد، ولا تقّدر بمقدار. ولعل جمعة، وهو واحد من الناس في النهاية، مجرد نموذج لا أكثر!!

الشعبية التي حصدها هذا الفنان الفطري بالمجان تضاهي تلك النجوميات الزائفة التي تنفق عليها أطنان من الدولارات.. إضافة لكونه يذكرنا بنظرية البهجة، هذه النظرية التي لم يعد هناك من يؤمن بها، منذ «زوربا» ابن كزانتزاكيس و«الزين» ابن الطيب صالح، إلاّ الحالمين الطيبين من أمثاله.. يكفي، كما تبيّن الكليبات، أن يأتي هذا الرجل إلى مكانٍ ما حتى يجعله ضاجّاً صاخباً، ويكفي أن تراقب إغماضة عينيه حين يسلطن مع «أم شامة» أو «حبيب أمك» لترى كم في هذا البسيط والمجهول من أحاسيس صافية لم تستطع الحروب المتكررة والحصارات المستمرة تعكير ذرة من صفائها، فالعينان اللتان يغمضهما على اتساعهما، بينما حبال صوته تحوّل جمهوره إلى كورال، يفتحان طرقاً سرية في النفوس بفضل أداء ساحر..

حصل جمعة العتّاك على استضافة من إحدى الفضائيات، فبدا نظيفاً حليق الذقن أنيقاً، لكنه سرعان ما عاد إلى أمكنة الحكاية الأولى، المقهى والسّوق والحارة والمخفر، مع الشّباب والرّجال وأصحاب المحلاّت والشّرطة.. مع الجميع، لأنه للجميع.. عاد إلى مسرحه الطّليق ليمارس دور بابا نويل الطبيعيّ، وليجعل الفرح حالة عامة، والعيد أمراً يوميّاً، في مقاومة من نوع لم يحسب لها حساب أبداً، رغم كل ما يبيّت لسلب العراق وفقراء العالم الثالث هذا الأمر بالذات..

رائد وحش

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.