وماذا بعد.. أيها السادة؟!
كثيرة هي الندوات الثقافية والفكرية والسياسية التي تقام هنا وهناك على امتداد الجغرافية العربية، وكثيرة هي اللقاءات مع أهل الفكر والثقافة والسياسة... عبر وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية الذين يتصدون لتحليل الواقع العربي المتردي، وتشريح مفرداته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية والإعلامية والتربوية والأدبية... وكثيرة هي المؤتمرات الثقافية العربية «الجليلة» التي ترصد القضايا والمشكلات العربية، وآلام المواطن العربي وآماله وطموحاته وأحلامه بأن يحيا حياة حرة كريمة، وترسم آفاقه المستقبلية... وهذه المؤتمرات ـ مذ كنت أحبو ـ تقول عبر حنجرة بدوية مجلجلة: إن المنطقة العربية تمر بمرحلة خطرة من تاريخها، وإن القوى العظمى، التي تحولت إلى قوة وحيدة القرن حسب الداروينية، تريد تغيير نسيج المنطقة الثقافي (..؟)، فترفع تلك المؤتمرات عقيرتها، وتعلن في القبائل العربية وفي بطونها وأفخاذها وفي أسمائها الستة... تعلن رفضها القاطع للهيمنة الأمريكية ولجميع المخططات الامبريالية التي تسعى إلى النيل من الثقافة العربية، كما تعلن رفضها الحاسم للاحتلالات العسكرية والثقافية والإعلامية الصهيونية/الأمريكية التي تستهدف منطقتنا العربية، وأنها، أي المؤتمرات، تعمل بكل جدية ومسؤولية، وإلى يوم الانبعاث، على بناء خطة محكمة لمواجهتها... وإلى ذلك جميعاً... فقد أشارت هذه المؤتمرات، وما تزال تشير، إلى أهمية الثقافة والإبداع والفنون في التقارب بين الشعوب وتضييق الفجوات الناجمة عن السياسات والأيديولوجيات التي تدفعها إلى مسارات التباعد والتفريق (..؟).
وماذا بعد..؟ ليلي لا يزال يئن، وقلبي يسيل، وسمائي ما تزال منذ قرون طويلة تتضرج «بالنبيذ» المسفوح، وأرضي ما تزال تمور بالسلاسل والأقبية والحيف والغمة وبالفساد بألوان الطيف كافة، وتموج بالأحذية العسكرية وبالردى.
معظم النظام العربي الرسمي المغترب عن شعبه «يتعامل» مع الولايات المتحدة الأمريكية، أي يتواطأ ويخضع ويستلم للإملاءات الأمريكية/ الصهيونية.. و«يتعاون» هذا النظام معها في مختلف الميادين والمجالات وعلى المستويات كلها (...)، أي يطيع وينفذ ويحاصر قوى المقاومة والمعارضة والمواجهة، دولاً وأحزاباً وحركات، ويعمل بشراسة مع الإمبريالية الغربية ومع بعض الأطراف المحلية/ الداخلية في هذا البلد أو ذاك على إسقاط هذه القوى بكل الوسائل المادية والمعنوية (..؟)
ولا أظن أن أحداً يختلف معنا في أن هذا «المعظم» من النظام العربي الرسمي الفاقد للشرعية قد حول العباد إلى «أقنان»، والبلاد إلى «مزرعة»..
يرى، فيما يرى، القلم النظيف د. «عزمي بشارة» في كتابه «أن تكون عربياً في أيامنا» أن جيلاً عربياً كاملاً يقف في أيامنا «وهو يتساءل عن سبب كون العرب آخر شعوب الأرض المضطرة إلى دمج السياسة بالحديث بمرارة عن سلوك الزعماء الشخصي وأقربائهم ومقربيهم، وعن أمزجتهم وعاداتهم، وعن ثرواتهم.. كأن الحديث هو عن مزارع شخصية أو إقطاعيات... وليس عن دول...».
وإذا كانت القيادات السياسية العربية في وقتنا الراهن صاحبة مشاريع خاصة سياسية واقتصادية... مسخرة في خدمتهاـ كما يقول بشارةـ أدوات حزبية وأمنية وعشائرية وطائفية، فلابد، من أن تنحل معها الأعراف والأخلاق العامة (التي تقوم على وجود صالح عام وحيز عام).. والدفاع عن المصالح الخاصة في حرب الكل ضد الكل لا يؤسس لأخلاق عامة، بل الخيار: الاستبداد أو الفوضى(..؟).
ولا أظن، مرة أخرى، أن أحداً يحترم عقله ونفسه وقلمه، و«يمتلك» الحد الأدنى من المنطق والصدقية والمصداقية يختلف معنا في ان الإدارات الأمريكية المتعاقبة (كانت ومازالت وستبقى) تدعم، على هذا النحو أو ذاك، الأنظمة الاستبدادية والديكتاتورية، كما تدعم الجائرين والفاسدين والمفسدين... وتساند الطغاة والقتلة وخونة الأوطان... وتنقلب على الديمقراطية نفسها إذا لم تقف هذه الديمقراطية في صفها، غردت خارج سربها، بل أكثر من ذلك تنقلب الإدارات الأمريكية (والغربية عموماً) على الديكتاتوريات عندما تكف هذه الأخيرة عن أن تكون مطيعة و«صديقة» لها... والويل والرجم لكل من يمتنع عن طاعتها و«صداقتها» وتلبية مصالحها.. وكل الكلام عن الحرية والعدالة والديمقراطية وسيادة القانون وحقوق الإنسان وكل القيم السامية... يصير صفراً (على الشمال) إذا تعارض مع هذه المصالح (...).
إن المؤسسة الأمريكية الحاكمة، ولاسيما في الفترة الأخيرة، تنهض سياستها الخارجية على جملة «أقانيم» من أهمها:
الحرب على «الإرهاب».
أمن الكيان الصهيوني.
«شيطنة» الخصم السياسي.
من معنا «خير» ومن هو ضدنا «شرير».
رؤية تستصغر الآخرين، وتنطوي على استعلاء عنصري لم تسلم منه حتى أوروبا «القديمة والجديدة» (...).
الزعم بأن حركات المقاومة هي حركات غير شرعية وخارجة على القانون (وعنه)، ولا بد من تصفيتها... أو تحويلها إلى «أحزاب» سياسية مفرغة من أي مضمون وطني، نضالي، كفاحي، ثوري، جهادي..
النفعية... فالثقافة الأمريكية، على وجه الإجمال، تقوم، جوهرياً ومبدئياً، على الفلسفة الذرائعية «البراغماتية» (إن أمراً ما هو حقيقي لأنه نافع، وإن أمراً ما آخر غير حقيقي لأنه غير نافع..).
ومن نافلة الكلام إلى حد البداهة القول: إن أفكار الهيمنة والسيطرة والنهب... والتحكم بمصائر الشعوب والأمم واغتيال سيادة الدول... واعتماد معجم لغوي من أبرز مفرداته:
المكابرة والغطرسة والفوقية والغرور والتعالي... الضغط والقوة والابتزاز والوصاية... التلفيقات والأساليب المخادعة والافتراءات والأكاذيب... التهديد والوعيد... العقوبات المختلفة والإرهاب بأشكاله كافة... العزل والحصار المتعدد الأنواع والألوان والعدوان الحاضر دائماً في كل زمان ومكان... نجدها كلها، نظرياً عملياً، في تفاصيل الثقافة السياسية الأمريكية التي ما برحت، إلى جانب ما تقدم جميعاً، تعمل، بلا كلل وبلا ملل، على التآمر وإثارة الفتن وعلى إفساد الآخر سياسياً، اجتماعياً، ثقافياً، فكرياً وأخلاقياً...
ومن المفارقات التي تدخل، ها هنا، في باب الكوميديا السوداء (الدامعة)، أو في باب (العاهرة تعلم العفة) أن الولايات المتحدة الأمريكية تعد نفسها «زعيمة» حرية التعبير الديني في العالم أجمع (؟!). ألم تنتقد الخارجية الأمريكية عبر تقريرها السنوي الأخير أوضاع الحريات الدينية على الصعيد العربي (العراق، السعودية...)، والإقليمي (إيران..)، والأوروبي (؟؟) (سويسرا..)..
إن الإمبريالية (وكذلك الصهيونية) لا تغير جلدها وطبيعتها وأهدافها وسلوكها وسياستها... ويومها لم يختلف عن أمسها، ولن يختلف، فالإمبريالية في أي ظرف من الظروف، وفي أي حال من الأحوال هي الإمبريالية (...).
وما بعد؟ لو نهض (كريستوف كولومبس) من قبره واكتشف ـ كما يقول المبدع محمد الماغوط ـ دواء شعبياً لكل الأمراض المستعصية في التاريخ، وعلى رأسها «السرطان» فلن يكفر عن جريمته باكتشاف «أمريكا».