«معلوف الديمقراطي» و«زياد الستاليني»!

«معلوف الديمقراطي» و«زياد الستاليني»!

تستمر حتى اللحظة ردود الأفعال المتباينة من الروائي أمين معلوف بعد ظهوره على إحدى فضائيات المحتل الصهيوني. هنالك من يطالبه بالاعتذار، وكأن من شأن الاعتذار أن يحل المسألة! ويتمنى، فوق ذلك، لو أنه «لم يفعلها»، ويأمل بحرقة في «استعادته»..

عينة أخرى تشن هجوماً شرساً على شخص أمين معلوف معتبرة أن ما جرى هو «سقطة» كبرى، وتطالب تالياً بمقاطعته وإلقاء كتبه جانباً، لتبقى بذلك على سطح المسألة بعيداً عن جوهرها الذي نتوافق فيه مع التحليل الوارد في موقع قاسيون ضمن مادة «هل انتهت صدمتكم بأمين معلوف»، ونشير أن قلة قليلة ذهبت المذهب نفسه حين وصفت معلوف بأنه لا أكثر من برغي مسكين ضمن آلة ضخمة..

العينة الثالثة من «الآراء»، والتي سنتوقف عندها هنا، هي تلك التي يمثلها أشخاص من أمثال حازم صاغية ومن لف لفه، وهي الآراء التي تمتاز بوقاحتها المقصودة المنقطعة النظير..

يبدأ صاغية مادته المنشورة في الحياة والمعنونة «فقط لو لم يتحدّث أمين معلوف!» بما يلي: «يسكن النظريّةَ المناهضة للتطبيع مخلوق غير ديموقراطيّ، بل عميق في استبداده: لا تصالحهم، لا تصافحهم، لا تحدّثهم، لا تترجمهم، لا تؤاكلهم، لا تشاربهم، لا تسمعهم إلخ..» أي أن الرجل يبدأ من النهاية تماماً، يبدأ من جوهر المسألة: فإذا كانت المسألة في جوهرها هي حول الموقف من التطبيع مع الكيان الصهيوني، فلتكن إذاً.. معادو التطبيع يسكنهم «مخلوق غير ديمقراطي»! وتالياً فالمطبّعون يسكنهم على العكس من ذلك «مخلوق ديمقراطي».

لا بد قبل المضي قدماً، من التذكير بأن صاغية نفسه كان واحداً من رؤوس «المثقفين الديمقراطيين» الذين قادوا حملة إعلامية كبرى، شرسة وغير ديمقراطية البتة، ضد زياد الرحباني والرحابنة ككل، منذ أكثر من عامين، على إثر تصريحات زياد التي قال فيها أن «فيروز تحب حسن نصر الله».. في حينه كان سهلاً على صاغية وأمثاله أن يصفوا نتاج زياد الرحباني بأنه نتاج ضحل وآخذ في «التقلص»، وكان الأسهل عليهم هو الهجوم على «ستالينية زياد» وعلى مواقف زياد السياسية بشكل مباشر ووقح اتكاءً على تصريحاته.. بالمقابل فإنّ مناقشة هؤلاء لمعلوف، اللبناني أيضاً ولكن الفرنسي، تتطلب تذكير الناس بأهمية ما كتب الرجل وبعلو ساقه، لأنّ «مبدعاً خارقاً» كهذا هو فوق كل القضايا.. هو تكثيف للإنسانية وللخير وللحق.. وإلخ

يطرح صاغية القضية كما هي، يعلن أنه مع التطبيع، بل ويشن هجوماً على «الخشبيين» الرافضين للتطبيع معللاً ذلك بأن الوعي المناهض للتطبيع يمتاز بكونه استبدادياً وطائفياً! ويقصد بذلك أنظمة ما يسمى «الديمقراطية الثورية» أي الأنظمة في سورية وليبيا والعراق في فترة من الفترات، وبذلك فإنه ومن خلال قَرْنه رفض التطبيع بهذه الأنظمة يبيح لنفسه أن يقبل التطبيع، بل ويحاول جر الناس لقبول التطبيع بوصفه عملاً مضاداً لهذه الأنظمة القمعية والاستبدادية.. وإلخ

إنّ ما يسقط من حساب صاغية، بشكل مقصود، هو أنّ أنظمة الخليج وعلى رأسها السعودية، وكذلك أنظمة المغرب والأردن وغيرها، هي جميعها أنظمة طبّعت العلاقات مع الصهاينة منذ عقود وما تزال، وهي رغم ذلك أنظمة استبدادية وفاسدة. ولذلك فالكائن الذي يقف مع التطبيع، ضمن هذه المقارنة على الأقل، ليس «كائناً ديمقراطياً»، ومحاولة تحويل التطبيع إلى شرط نحو «الديمقراطية» هي محاولة بائسة البؤس كله.. أضف إلى ذلك أن «الكائن حازم صاغية» الديمقراطي والداعي للتطبيع لم يستطع إظهار ديمقراطيته إلا تجاه معلوف وأمثاله، في حين تحولت تلك الديمقراطية إلى دكتاتورية وقحة حين تعلق الأمر بزياد الرحباني وبالموقف من قوى مقاومة.. إذن فالمسألة برمتها وبعمقها مسألة سياسية وليست مسألة صراع أدبي وثقافي فحسب.

يتضح الأمر أكثر حين نقرأ في مقالة المذكور قوله: «يُستحسن هنا ألاّ تسكرنا رصاصتا رشّاش أو طعنة يائسة بسكّين مطبخ» والمقصود الأعمال البطولية التي يقاوم بها الفلسطينيون محتلّهم.. لا يفوت الكاتب بطبيعة الحال الهجوم على بوتين وتوصيفه براعي «إسرائيل» وحاميها.. وفي ذلك يتفق الكاتب مع الفاسدين الكبار داخل «أنظمة الديمقراطية الثورية» الذين يبذلون الجهود المختلفة في الهجوم على روسيا عبر منابرهم الرسمية وغير الرسمية.. ومن وراء القصد الهجوم على الحل السياسي الذي فيه حسابهم وحساب إخوتهم في النصرة وداعش وأشباههما..

 إنّ مجمل الجدل المثار حول أمين معلوف، هو كما أسلفنا، في جوهره جدل حول مسألتين أساسيتين: الموقف من الكيان الصهيوني ومن التطبيع معه بأبعاد هذا الموقف المختلفة، وصولاً إلى تحديد الموقف من (الدولتين الكبريين) روسيا وأمريكا. والمسألة الثانية هي دور المثقف ودور النخبة الثقافية.

في هذه الأخيرة، يبدو أننا دخلنا عصراً جديداً يعود فيه تدريجياً الألق الحقيقي لوظيفة المثقف بعد أن بهتت هذه الوظيفة خلال فترات الانحطاط والركود التي شهدتها العقود الماضية، وعودة الألق لوظيفة المثقف لا تعني عودة «المثقفين» أنفسهم، بل إعادة فرزهم بين فئتين، فئة بالية تنتمي بعقليتها ومحاكماتها وطريقة عملها إلى عصر مضى، وفئة تتكيف مع العصر الجديد.. أضف إلى ذلك أن الباب مفتوح على مصراعيه أمام ظهور مثقفين جدد قادرين على التعبير عن روح العصر الذي نعيش فيه.

آخر تعديل على الإثنين, 20 حزيران/يونيو 2016 20:24