بدء انهيار الفضاء السياسي القديم..
لم يكن مفاجئأ في مجريات الانتفاضات الثورية في مصر وتونس وبقية البلدان العربية بروز العجز والتراجع في دور الفضاء السياسي الكلاسيكي أو السائد في شقيّه (معارضة- نظام) في التأثير في الناس وتمثيلهم، بل ظهرت بشكلٍ واضح أزمة الثقة من جانب الجماهير في تلك التشكيلات السياسية القائمة منذ عقود، فلم تستطع المعارضات التي تفكر بعقلية انتهاز الفرص وركوب الموجات الثورية أن تحتوي التحركات الجماهيرية الغاضبة والواسعة، وأن تقودها أو تمثلها سياسياً، على الرغم من المزاودات المحمومة، والخطب الإعلامية، وتلاوة المطالب «الديمقراطية» المسماة باسم الجماهير التي يستعصى عليها فهمها، كونها بعيدة عن حاجاتها البسيطة والملموسة اقتصادياً واجتماعياً.
ولم تشفع تنازلات ووعود ورشا الأنظمة بتخفيف حدة الاحتجاجات، فتاريخها الاستبدادي ونهبها للموارد والثروات وتفريطها للكرامة الوطنية حال دون ذلك، حتى وصلت الحال «بالزعماء» إلى توسل الأمان من البركان الشعبي الثائر عبر توظيف حلفائهم من «المعارضين» بإجراء تمثيليات الحوار ومذّكرات «التواطؤ الوطني».
وأمام هذا الاحتضار العلني والمدوّي للفضاء السياسي القديم تنشأ ضرورة البحث عن أسباب هذا الاحتضار، وعن اللوحة السياسية المقبلة للمنطقة، وعن ملامح فضاءٍ سياسي مرتقب وقدرته على صياغة مطالب الناس المعيشية والديمقراطية لتجد طريقها إلى التنفيذ، وقطع الطريق أمام الغرب الإمبريالي في محاولته ركوب الموجة الجديدة..
المثال المصري
في متابعة الممارسة السياسية للمعارضة المصرية (الوفد والتجمّع والإخوان...) بعد 25 يناير، نجد أن هذه القوى، وعلى الرغم من نزولها إلى جانب الملايين من الشباب إلى الساحات والشوارع، إلّا أنها كانت أقل الأطراف صموداً وأكثرها هشاشة وتجاوباً مع محاولات النظام امتصاص حالة السخط والاستياء الشعبي بانخراطها في الحوار مع النظام بعد رفض الشارع القاطع والواضح لهذا الحوار الذي لم يكن يعني في ذلك الحين إلّا المتاجرة بدماء الشهداء من الشباب.
والنظام المصري حينما أدرك انعدام فعالية هذه الأحزاب، وأن التحرك الشعبي ما يزال قائماً، لجأ إلى إلغاء الحوار في مشهد بائس ظهر فيه أن جميع المتحاورين مفلسون تماماً من أي رصيد شعبي من شأنه أن يلعب أي دور بسيط في الحياة السياسية للبلاد.. فالتحركات الشعبية والثورات لم تطح بأنظمتها فقط، بل أطاحت -في سيرورة قيامها- بمعارضاتها أيضاً، أي أطاحت بكامل الفضاء السياسي السائد.
هنا أصبح الفرز التقليدي بين القوى السياسية في الفضاء الواحد (معارضة – نظام) فرزاً شائخاً عفا عليه الزمن نتيجة انزياح الفضاء برمّته تاريخياً عن التيارات الاجتماعية المختلفة، والتي بقيت موجودة وكامنة وتمارس موضوعياً صراعاً طبقياً في السرّ والعلن على الرغم من انقضاء أجل ودور الفضاء السياسي القائم.
لكن هذا التراجع لن يغني في نهاية المطاف عن ضرورة التمثيل السياسي للتحركات الجماهيرية، لأن هذا التمثيل هو الذي سيثمّر ثورة الجماهير وسيصيغ مطالبها الآنيّة المتعلقة بإزالة بقايا الأنظمة السابقة، ومطالبها البعيدة المتمثّلة بالتغييّر الاقتصادي -الاجتماعي والديمقراطي. وإن لم يحدث هذا التمثيل فستذهب ثورة الجماهير أدراج الرياح.. لا بل «سيرثها الأوغاد» الذين يقدّسون عفوية الجماهير في محاولة وأد المولود السياسي الجديد قبل أن يرى النور.
وعن طبيعة البدائل السياسية المحتملة في المرحلة المقبلة، نستذكر ما قاله غرامشي عن عمل الأحزاب في فترات الأزمة العضوية: «في لحظة معيّنة من حياتها التاريخيّة تنفصل الطبقات الاجتماعية عن أحزابها التقليدية، وبعبارة أخرى لم تعد تلك الأحزاب، بشكلها التنظيمي الخاص، وبرجالها الذين يكوّنونها ويمثّلونها ويقودونها، معترفاً بها من طبقتها التي تعبّر عنها. عندما تقع مثل هذه الأزمات، يصبح الوضع حرجاً، لأن المجال ينفسح أمام الحلول العنيفة، ونشاطات القوى المجهولة التي يمثّلها (رجال القدر) الكارزميون....».
وليس رجال القدر في حال الثورة المصريّة إلّا الشباب في الميادين والساحات، وليست القوى المجهولة إلا مجموعات من الضباط المصريين تحرّكت لمصلحة الثورة في الوقت المناسب، هذا هو المؤكد حتّى الآن، أما الحديث عن الأطر السياسية الجديدة التي ستنظّم وتمثّل هذه القوى وتظهرها للعلن كاتجاهات سياسية منسجمة وواضحة المعالم، فسيكون رهناً بمعايير للفرز السياسي مختلفة عن تلك التي تنتمي للفضاء السياسي السابق.
إن المعارضات التي اقتصرت شعاراتها على المطالب الديمقراطية -في حدود كسر احتكار النظام للسلطة- بينما لم تتمايز عن الأنظمة في المسألة الاقتصادية- الاجتماعية بتبّنيها للليبرالية، ولا في المسألة الوطنية عبر الاستقواء بالخارج أو التظلّم له، راهنت مخطئةً على أن شعاراتها تلك ستكون رافعةً للتغيير، ولم تنتبه إلى مسألة مهمّة وهي أنّه ليس صعباً على الجماهير أن تدرك أن الممارسة الديمقراطية تنتج في سيرورة الممارسة في الميادين الاقتصادية- الاجتماعية والوطنية، وأن الفارق بين المعارضة والنظام هو من الذي يمسك بزمام السلطة ويمارس السياسات الليبرالية أو التطبيع مع الكيان الصهيوني ويعزز موقعه بالاعتماد على الخارج.
وعلى الرغم من أن ركّاب الموجة الشعبية كثيرون بدءاً من احتياطي القوى الحليفة للغرب (الإخوان والبرادعي نموذجاً)، بالإضافة إلى بقايا نظام مبارك ورجالاته والفاسدين الذين لم يسلّط الأعلام أضواءه عليهم، ورجال الأعمال وبعض شيوخ الأزهر... إلّا أن الجماهير التي تدرّبت من خلال هذه الأحداث على فن النزول إلى الشارع والاحتجاج وصياغة المطالب ومتابعة تحصيلها، استطاعت أن تحوز على مخزون نضالي يسمح لها لاحقاً بالدفاع عن ثورتها والمضيّ فيها إلى نهاياتها في القضايا الاقتصادية –الاجتماعية والوطنية والديمقراطية ولو بعد حين. وبجملة أخرى إرساء أساسات فضاء سياسي جديد، ينفي القديم عبر الصراع معه، ويعيد إلى مصر دورها المغيّب منذ أكثر من ثلاثة عقود.
لذا فإن شكل الفضاء السياسي الجديد متروك لإبداعات الشعوب وللمقبل من التغيرات في موازين القوى الدولية المتمثّلة بتراجع دور الولايات المتّحدة في العالم وفي منطقتنا على وجه الخصوص نتيجةً لأزمة الرأسمالية، فإذا قُدّر للانتفاضة الثورية في مصر النجاح بإحداثها تغييرات عميقة في بنية المجتمع والدولة، فستكون رافعة ونموذجاً جديداً للتجارب الثورية الجديدة، الحقيقيّة وليست المخمليّة، التي تصنعها الجماهير في المنطقة، فالتجارب الناجحة في التاريخ لم تكن منسوخة عن سابقاتها، حتى أكثرها عمقاً وسطوعاً..