حكايا الأطفال.. للكبار
حاول الشباب السوري- على اختلاف اتجاهه السياسي- منذ سنتين وإلى الآن توظيف كل ما وقع تحت يده من تراث ثقافي مسموع ومرئي ومكتوب لإيصال رسائل سياسية وتوجيه الرأي العام بهدف تبني أفكار وقيم جديدة، ولذلك مبرر واضحٌ: إذ أنه يكون من السهل أحيانا الاستفادة من مثيرات تمتلك دلالات ثقافية واضحة وراسخة في اللاشعور الجمعي بدلا من خلق مثيرات جديدة تماما. ولهذا ضجّت صفحات التواصل الاجتماعي باستعارات وأقوال من مسرحيات وأعمال زياد الرحباني أومحمود درويش. أواستخدمت ألحانا مألوفة في التراث الشعبي بعد أن استبدلت كلماتها بأخرى جديدة تتحدث عن وقائع مستمدة مما يحصل اليوم. في السياق ذاته جاء توظيف قصص الأطفال التي ابتعدت هذه المرة عن مجرد الاكتفاء بإيصال رسائل تعليمية وأخلاقية من نوع «أهمية إطاعة كلام الوالدين» أو«مخاطر الكذب «لتحمل دلالات وقيما سياسية أعمق تحكى على لسان حيوانات الغابة وأبطال الحكايات..
وهنا يمكن استذكار حكاية «الراعي الكّذاب» المشهورة التي تحكي قصة راع اعتاد التظاهر أن ذئبا هاجم قطيع أغنامه أمام أهالي قريته، ليكتشف الأهل كل مرة أن ذلك لا يعدوكونه كذبة ألفها الراعي بغرض المزاح.. حتى يأتي اليوم الذي يظهر فيه ذئبٌ حقيقي يلتهم الخراف دون أن يلبي أحدٌ نداء وتوسلات الراعي بعد أن فقد ثقة الجميع.
في النسخة المحدّثة من الحكاية كان الإعلام الرسمي الناطق باسم الحكومة السورية هوالراعي الذي بدأ يتحدث عن جماعات مسلحة ومؤامرة كونية تستهدف البلاد بدلا من الاعتراف بوجود حركة احتجاجية ناشئة أومطالب شعبية محقة. وفي الوقت الذي أصبحت فيه بعضٌ من تلك الإتهامات حقيقة كان الإعلام السوري يفقد ثقة شريحة كبيرة من المجتمع، لتبقى نداءاته تصدح في الهواء دون أن تلقى آذانا صاغية.
وإن كانت إستعارة الراعي الكذاب موفقة إلى حد ما بحيث استطاعات أن تعكس ببراعة واحدة من أهم مآزق الإعلام الرسمي بخطابه الجامد المتعامي عن كل ما يجري في البلاد.لكن تبقى هناك توظيفات أخرى لقصص الأطفال تحمل في طياتها بعدا أكثر خطورة. ويمكن أن تساق «حكاية ليلى والذئب كما يرويها حفيد الذئب» مثالا على ذلك:
في الإخراج الجديد للحكاية يضيق الذئب «النباتي» ذرعا من تخريب ليلى المتكرر للأعشاب والنباتات التي يقتات عليها، ويقرر الذهاب إلى الجدة كي يشكولها تصرفات حفيدتها، تبادره الجدة بالضّرب، وبينما يحاول الذئب الدفاع عن نفسه يقتل الجدة بالخطأ ويقرر أن يتنكر بزيّها كي يخفف من حزن ليلى..
وهنا يمكن تلمّس الدلالات الخفية للحكاية بعد تعديلها بوضوح: ابتداء من اختيار قصة ذات شهرة وانتشار كبير والتشكيك الكامل بالرواية وسير للأحداث من خلال تغيير منظور الرؤيا (رأي حفيد الذئب بدلا من ليلى) للإيحاء بأن ليس هناك حقائق مطلقة وإنما الوقائع نسبية أومجرد وجهة نظر!!
ثم تأتي بعد ذلك الإشارات للذئب النباتي الذي قرر التوقف عن أكل اللحوم، أوموت الجدة غير المقصود في محاولة للدفاع عن النفس، وانقلاب الأدوار بين الضحية والمذنب. وفي ذلك كله إشارات واضحة لضرورة إعادة النظر ببعض المواقف الوطنية والسياسية كالموقف من الإخوان المسلمين أو الكيان الصهيوني وأمريكا.
تمتلك تلك الاستعارات القصصية أهمية بالغة لأنها تستطيع دون غيرها أن تخاطب عقول المتلقيين وقلوبهم في آن معا، تخاطب نضج الكبار جانب الجزء الطفولي الهش المختبئ داخلهم، تقدم المضمون الجاد بقالب ساخر، والأخطر من ذلك كله أنها تحاول غرس أفكار جديدة - بعضها قد يكون شديد الخطورة- أوتشكك في تاريخ كامل بوصفه مجرد وجهة نظر في الوقت الذي قد يكون المتلقي فيه غافلا لا يعير الأمر كثيرا من الاهتمام لأن ما يحكى الآن لا يعدوكونه مجرد حكاية أوقصة من وحي الخيال!