رائد وحش رائد وحش

الــــحربُ العائليَّة الثَّانية

في عام 1990 أعلنتْ أمّي حالة طوارئٍ منزليّة قصوى، واستنفارٍ عائليٍّ عامٍّ، من أجل حماية بيتنا السّعيد جدّاً من أيِّ خطرٍ يُحتمل وصوله إلينا ممّا سُمّي آنذاك بـ«حرب الخليج»!!

 

هزليّاً بدا الأمر بالنّسبة لنا نحن الأطفالَ، إلى درجة تخيُّلِهَا ببدلةٍ عسكريّةٍ وطينٍ يموّه الوجه.

كان الأب والأعمام (أحدهم كان هارباً من الكويت مع الكثير من الأكاذيب حقّقت له حضوراً مؤقتاً في ديوان الحارة)... كانوا يتسمّرون حول الرّاديو على صوتٍ مطاطيٍّ غريبٍ لرجلٍ بتنا نعرف صورته (الّتي لا تختلف كثيراً عن صوته) متكئاً بمرفقه على الطاولة ومحدقاً بالمشاهدين كمن يتوعّدهم شرّ الوعيد وهو يجأرُ: «حصاد اليوم من قناة الجزيرة»، كما كان يهتف في سابق عهده هتافه الجنائزيّ: «هنا لندن».. طبعاً هو جميل عازر الذي أتوّقع أنكم حزرتموه!!

لم نظفر، نحن الصغار، من كل ذلك المعمعان إلا بأسماء الصواريخ: «عدنان1» و«عدنان2».. لظنِّنَا أنّهما على علاقة بالمسلسل الكرتونيّ الشّهير «عدنان ولينا»، لا سيما وأنّنا عرفناه مدبلجاً باللّغة العربيّة في لُكْنةٍ عراقيّة محبّبةٍ ما جعل قناعتنا هذي تترسخ أكثر، هذا عدا عن كون هذا المسلسل شكّل الصّورة الأقرب لمخيلاتنا الطفوليّة عن الغولة العمياء التي يسمونها: الحرب!!

أمُّنا، سلام الله عليها، ضاعفتْ ما تشتريه من الخبز كلَّ يوم، لتقسم الكميّة نصفين، واحدةً للأكل والأخرى تُيَبِسَهُا على رقعة قماش تحت الشّمس، من ثمّ تجمعها في شوال بجانب المؤن، باجتهاد نملة بشرية لن تتخلّص منه حتّى في أزمنة السلام المزعومة، وقتها كان كافياً كره الحرب لمجرّد أننا سنأكل خبزاً يابساً.

أشركتنا الأمّ في حملة الوقاية تلك، مستفيدةً من رشاقتنا وخفّتنا، بالأخصّ في عمليّة لصق ثقوب المنزل ببكرة لاصقٍ عريضةٍ سددنا بها فتحات الأبواب والشّقوق بين حديد الشّبابيك والمداخن و... البلاليع أيضاً.

المهمّة الشّاقة جاءتْ بتكليف من الإذاعة، ومن غير المستبعد أبداً أن يكون تعب البال ذلك جاء بجريرةٍ من جميل عازر، أو أحد شبيهيه من المذيعين الذين ظنّناهم أوفياء للــ«fm»، حينما أقلعنا عنها باتجاه الـ«tv»، هرباً منهم على الأرجحّ، فكان الخازوق المبشّم أنْ وجدناهم يُسَنْدِحُوْنَ بانتظارنا على الشاشات.

ما إن قالوا إنّا مُقبلون على حربٍ كيماويّةٍ ستُستخدم فيها غازاتٌ سامّةٌ وصواريخُ جرثوميّةٌ، حتى قامتْ أمّنا بوضعنا تحت الإقامة الجبرية مُصدِرةً البلاغ رقم (1) بلغةِ الـ(قطعْ.. بتْ)، مُحرّمةً الخروج نهائيّاً، ولم يقوَ أحدٌ على خرقه إلاّ الأب.. فأبونا لا يستطيع الغياب عن دواوين العشيرةِ حتّى لو قامت القيامة، حتى في حظر التجول الربانيّ!! لذلك اضطرت القيادة المنزليّة العليا إلى إصدار البلاغ رقم (2) الّذي يقضي أنّها لن تفتح الباب لأيٍّ كان وقتَ القصفِ، إيماناً منها أنّ موت واحد يبقى أهونُ ألفَ مرّةٍ من إبادة عائلة الصّغار الذين نحن، والذين هلعوا، في الكوابيس، من صورةِ الأب الذي سيموت يائساً ومنبوذاً بينما يداه تطرقان باباً هو يعرف حق المعرفة أنه لن يُفتح.

غارت نساء الحارة منها وبدأنَ بتقليدها في حمّى التّموين واللّصق وتجميع الخبز اليابس، لكنّها، بسبب عقدة التّفوّق، باهت الجميع بامتلاكها ملجأ.. نعم ملجأٌ، سيحميها ويحمي أولادها من الطّلعات الجويّة ودكّ المدفعيّة. ببساطةٍ كانت تقصد المنطقة الواقعة تحت درجِ البيت، فالمصادفة، أو غباء البنائين، أو الله سبحانه (كما رجّحت.. وهي لا ترجّح شيئاً إلا له) هو من جعل المكانَ غرفةً صغيرة.. ومتينةً!!

استعانتْ بجار يدرس الهندسة كي يجري حساباً دقيقاً (ثم رضيت بالحساب التقريبي لأنه تذرّع بعدم وجود الأدوات اللاّزمة) لكميّة الهواء في ملجئها. قام بالحسابات الرياضيّة، قسّم مكعب الحيّز على ما يمكن أن يستهلكه الشّخص الواحد خلال ساعةٍ من مكعبات الأوكسجين، ثم أعطاها زمناً محدّداً هو الحدّ الأقصى لضرورة تجديد التّهوية، أو الموت اختناقاً في الداخل..

الظريف أن الوقت القصير الذي نتج عن الحسابات بدا لها فرصةً ذهبيّةً للاعتذار، بل النّيل في حقيقة الأمر، من إحدى سلفاتها، برفض طلبها في اللجوء الإنساني لأن (معلاقها) كبير.

مع الوقت اشتدّ التّوتر، فبات الناس ينتظرون انطلاق صفارات الإنذار الوشيكة وركبهم ترتجف، وحدها تلك المرأة الوسواسيّة القلقة بطبعها بدتْ مُطمئنةً واثقةً كإله. يقينها كاملٌ من أنّ كلّ شيء سينتهي بسلام العائلة بفضل مشروع التّحصين المنزليّ!!

طلعتْ علينا بإعلانها بدء الرّيجيم، فراحتْ تمارس الرّياضة، وتتبع حمية في تخفيف الأكل.

اثنان منا يمسكان لها بطرفي حبل ويدوّرانه، كي تقفز وتقفز، متذرّعةً أنّها بحاجة إلى اللّياقة وقت الشدة، وحرصاً على توفير الطّعام، لئلا تفسح مجالاً لنقص قد يكون ضرسُها الطّيب سببه.

حتّى ذلك التاريخ كانت أمّي في السّادسة والعشرين من عمرها، وكنتُ أنا – بكرُها- في العاشرة، وكان البيت بادئاً بالازدهار والنّهوض قياساً إلى محيطه العائليّ والاجتماعيّ..

حتّى ذلك التّاريخ كلّ شيء كان على ما يرام، وكنّا عائلةً سعيدة حقّاً!!

حتّى ذلك التّاريخ كانت الحرب نوعاً من الحلّ، فعلى الأقلّ ستجعل أمّي أمّاً سعيدةً لو انهزمت الولايات المتحدّة الأمريكيّة في معركتها الأخيرة مع الاتحاد السوفياتي الذي كانت تكرهه، والذي سقط سقوطاً مدوياً بعد ذلك بقليل، فعاشت تتحسّر عليه، لأن كلّ ما حدث إنما حدث ليفاقم حزنها، وليجعلها تشيب وتتغضّن قبل الموعد الطبيعيّ..

حتّى ذلك التّاريخ لم تكن تبكي بلا سببٍ، ولا تصمت لساعاتٍ طوالٍ كالعجائز..

حتى ذلك التاريخ لم نكن يتامى.. بعده صرنا كذلك مع أنها موجودةٌ على رؤوسنا، لا لأنَّ جزءاً من الحلم انكسر، بل لأنّه لم يعد هناك مجالٌ للأحلام..

بعد وسواس الحرب أصيبتْ بوسواس السّرطان، الّذي تخلّصتْ منه بوسواس الحبل، الّذي تخلّصت منه بإضافتها كائناً جديداً، في السّنة التّالية، لم يكن الأخير بطبيعة الحال!!

في زمن الحرب لم يحدثْ شيءٌ ممّا حَسِبَت له، حتّى وزنها لم ينخفضْ.. وفي زمن السّلام التّالي انخفض وزنها كثيراً بفضل الوسواس، لا الرّيجيم ولا الرّياضة ولا الحِمْيَة.

الآن، في زمن اللا حرب واللا سلام، أحنُّ إلى خبزها اليابس.. إلى شخصيّتها القياديّة.. إلى وسائل التسلية العجيبة التي كانت تخترعها كي لا تداخلُنا بذرة ذعرٍ.. بينما هي لا تحنّ إلى شيءٍ، ولا تريد شيئاً سوى أن تقع حربٌ حقيقيّةٌ، حربٌ لا تمنحها الفرصة للتّحصينات وتييبيس الخبز وتحضير الملجأ.. حربٌ لا تسمح لنا، كما في السّابق، أن نبيع الخبز اليابس ونصرف ثمنه على لعب «الفيشة» و«الدحل»..

تحصينات أمّي الوحيدة للحرب القادمة هي أحزانها التي راكمتها الحروب التي لم تقع..!!