الجلاء .. «الاستحضار.. وإعادة التشكيل!»
لم يكن حالماً، رغم أنّ الأحلام مشروعة! ولم يكن خيالاً، رغم أن الخيال يمتد امتداد الأفق! ولم يكن مجنوناً، فهو يعرف النتيجة الآنية.. لكنه يُدرك أهمية ما يفعله لمن سيحمل الراية من بعده..
مع صباح صدور هذا العدد تحل الذكرى السبعون لعيد الجلاء، تحل هذه الذكرى والبلاد جريحة، تنزف، اجتمعت عليها خفافيش الظلام، ووحوش الفساد. ما زالت ذاكرة الطفولة تحتفظ بالفرح في صباح 17 نيسان من كل عام، منذ نهاية الخمسينات، عندما كنا صغاراً، نذهب لنشاهد الاحتفال والعرض العسكري والعلم السوري يرفرف. ننام ليلاً ونحلم بيوسف العظمة، يمتطي جواده، ويحمل سيفه الدمشقي، حيث ترسخت في عقولنا وقلوبنا ثقافة من نوع خاص، لم ندرك عمقها صغاراً، لكننا وعيناها لاحقاً، إلى أن صارت هاجساً لدينا عندما صرنا كباراً!
مع صباح صدور هذا العدد تحل الذكرى السبعون لعيد الجلاء، تحل هذه الذكرى والبلاد جريحة، تنزف، اجتمعت عليها خفافيش الظلام، ووحوش الفساد. ما زالت ذاكرة الطفولة تحتفظ بالفرح في صباح 17 نيسان من كل عام، منذ نهاية الخمسينات، عندما كنا صغاراً، نذهب لنشاهد الاحتفال والعرض العسكري والعلم السوري يرفرف. ننام ليلاً ونحلم بيوسف العظمة، يمتطي جواده، ويحمل سيفه الدمشقي، حيث ترسخت في عقولنا وقلوبنا ثقافة من نوع خاص، لم ندرك عمقها صغاراً، لكننا وعيناها لاحقاً، إلى أن صارت هاجساً لدينا عندما صرنا كباراً!
واليوم تُستحضر الذكرى، ويحضر معها أبطالها ورموزها، أولئك الذين طلبوا المستحيل فحولوه إلى واقع، صنعوا لنا تاريخاً وصنعوا لأنفسهم خلوداً ما زال صوته ينطلق من بِطاح ميسلون، ويتردد صداه في أنحاء البلاد كلها، وسيستمر، ليصبح ثقافةً، تبنى على وعي جديد، يحطم جدار الخوف والجهل ويطلق العقل للتفكير والاجتهاد ويحرك الذاكرة لاستحضار أمجاد الماضي وبناء صورة مستقبل أفضل..
تكمن أهمية الذكرى في أنها تحمل مجموعة متكاملة من الرموز والمعاني التي نشترك في معرفتها جميعاً، يعاد تشكيلها وإعادة ترتيبها على الدوام، لتصبح لاحقاً جزءاً من وعينا المتشكل، فساحة الوعي الأساسية هي الممارسة التي تنتج عن هذا الوعي مستعرضة أهم آثاره. والمفاهيم والقيم هي المجال الأول الذي تتحرك فيه المقاومة لبناء الفرد والمجتمع المقاوم، ولإنهاء عملية تغييب وعي الفرد والمجتمع وفعلهما.
ثقافة المقاومة
جلجامش الذي بحث عن عشبة الخلود المادي وخاض صراعات من أجلها مع صديقه أنكيدو، في النهاية، وجد أن ذلك مستحيل، لكنه وصل إلى نتيجة أخرى أنّ الإنسان يمكن أن يصبح خالداً بطريقة أخرى، كأن يقوم بعمل عظيم أو يضحي بحياته من أجل غاية سامية!
عبد الغني العريسي ورفاقه، الذين أعدموا في دمشق وبيروت، في 6 أيار، لم يستسلموا، وإنما حلقوا عالياً، أعلى من أعواد المشانق!
أما يوسف العظمة فقد خرج إلى بطاح ميسلون شاهراً سيفه مع بضع مئاتٍ من الشباب، خرجوا معه طوعاً، وقد أدركوا معه أنّ الانتصار العسكري مستحيل في مواجهة آلافٍ من الجيش الفرنسي المدجج بأحدث الأسلحة، لكنهم أدركوا أيضاً أنّ هناك من سيحمل الراية بعدهم من أجل سورية تُراباً وشعباً، وأن أرواحهم لن تذهب رخيصةً، فكانت ميسلون هي بداية الجلاء..
حمل الراية من بعدهم كثيرون، سلطان الأطرش الذي قال: «الدين لله والوطن للجميع.. وإلى السلاح إلى السلاح»، رمضان شلاش الذي اعتبره تشرشل رئيس وزراء بريطانيا أنه عدو خطير على بريطانيا العظمى آنذاك، الشيخ محمد الأشمر الذي حملت عمامته رائحة البلاد. أحمد مريود، أدهم خنجر إبراهيم هنانو وصالح العلي وغيرهم كثيرون، نالوا الخلود الذي لم يطلبوه في ذاكرة الشعب السوري وتاريخه، وما طلبوا غير الوطن وما بدّلوا تبديلاً.
اليوم الراية ما زالت ترفرف يحملها أحفاد هؤلاء، في الجولان وفي سورية كلها، وفي فلسطين ولبنان والعراق وفي منطقة الشرق العظيم، يحملها الشعب السوري كله، يحملها العربي والكردي والآشوري والسرياني والأرمني، يحملها المسلم والمسيحي واليزيدي، وتحملها أيضاً شعوب الشرق العظيم وقواها الوطنية، في مواجهة الظلم والقهر والاستغلال، مستندةً إلى هذا الإرث الحضاري والتاريخي، وإلى هذه الثقافة التي عُمرها آلاف السنين، في مواجهة الشعور بالعبث واللايقين واللا جدوى والهزيمة التي أخذت تشق طرائقها في النفوس وسط شعور باليأس والإحباط جراء الهزائم المتتالية.
إن إمكانية تحويل المقاومة إلى ثقافة وخطاب مضاد، يقوم على تحويل المواجهة بين الواقع كما اصطنعه المستعمِر، وقيام المستعمَر بدحض هذا الواقع وهدمه، لتصبح المقاومة أحد أهم وسائل التغيير الثقافي والسياسي وإدراك الذات والآخر و المحيط. لتحويل المستحيل إلى واقع كما قال غيفارا! فالسياسة والمقاومة هما في النهاية بنيتان ثقافيتان متوازيتان لا تنفصلان، ولا يمكن الإبقاء على إحداهما دون الأخرى، أو فرض أبجديات محددة من إحداهما.
ثقافة الهزيمة!
كما كانت ثقافة المقاومة عند الشعب السوري وشعوب المنطقة مترسخة تاريخياً وحضارياً، كانت هناك أيضاً ثقافة الخيانة والهزيمة على نحو مواز، ثقافة الخيانة عند من جروا عربة غورو من الفاسدين، غورو الذي أراد الانتقام من التاريخ والحضارة، والذي قال عند قبر صلاح الدين الذي طرد جحافل الغرب الاستعماري القديم: «ها قد عدنا يا صلاح الدين..».
ثقافة الخيانة عند ورثة من جروا عربة غورو من الشايلوكيين الجدد، وثقافة الخيانة عند من يساندون النخاسين الجدد، من الفاشيين التكفيريين، من يجلسون على جماجم الشعب السوري ومن يتعاون معهم في الداخل والخارج، ومستعدين لبيع البلاد والعباد.
ثقافة الهزيمة والاستسلام عند من أغمدوا سيف يوسف العظمة الدمشقي، من الفاسدين والمصفقين والمتاجرين بآلام الشعب السوري.
ستبقى ثقافة المقاومة والخلود، ستبقى ثقافة التغيير والتحرير، ولنصنع جلاءً جديداً آخر، ليس بالحل السياسي وإنهاء معاناة الشعب السوري فقط، وإنما ببناء سورية التعددية الديمقراطية، فلولا ميسلون لما كان الجلاء.