افتراض لوجود أدهش الافتراض
الآن أصبح للنعيق صدى يترجمه، يتماحك معه ويؤويه. صدى يتبدد بين الركام وبين النحيب، يرفل كأي نعيق وصداه على السطوح الرثَة ليطليَ بوظيفة الغبار أطلال المنسي من الأنسي: طرق خاوية - أزيز يسور الخطر- أولياء للفجاءة والرَّوْعِ... فعلى السوري أن يحتفل بعد حين، فقد أصبح كأيِّ منكوب كائناً سينمائياً يجيد فن الحركة، مأزوماً ينتج المتاهة ودموياً وصدئاً يُغرَسُ بالهلع كفيلم رعب رخيص.
بإمكان أي فيلم الآن أن يضربَ موعداً لأبنية المدائن والمراتع مع الوثائقي والسينمائي دون تمرُّس أو جهد، فالأمتعة قد وضِّبت ليرحل الوطن نحو طعنة الفن الشقي، وفيلم عن سورية سيصل رويداً من مستقبلها.. لذا سأكتب أنا فصولاً من فيلم وسأنساب مع الرؤية في افتراض مخطوط..
الفيلم روائيٌّ طويل كالينابيع، يشقُّ كثافة المحروس للخراب، يفضح مجهولاً كانت فيه الواقعة خياراً من الخيارات قبل أن تستحوذ على المشهد، إذاً الفيلم سيؤثث عتمته من عتمة زمانه، من انقلاب الرعاة على الشجن، هو محنةٌ ترى نبوءة الأشياء ولا تملك المصائر، والخطوب في هذا الوهمي تتابع في رصفها السوداوي لأنها سراب يتغذى من حاضر لا ريب في قساوته وحقده، أما الشخصيات، سوف تقنصها عين الفيلم كنسر عجوز في لجَّة ارتباكها وهي:
«أمجد الشامي»: القتيل الذي اصطفته مجريات الفيلم من بين عشرات تناثروا معه ليكون الفتيل، يرحل من مدينته النائية بغباء قدر وَعَدَهُ وهو متيقن من موته بتحصيل جامعي.
«رولا»: التي تأخرت عن موعدها، تأتي لتجمع فتات مائدة الغدر، هي سجينة المصادفات فأبوها الضابط الذي دفع تكاليف عشقها الجامعي مع أمجد من شحنات الفناء عند الحدود.
«صبحي»: صديق أمجد- سيكون وجه أبيه قاسياً نزقاً لحظة اجتياز الحدود بشحنة الفناء التي استوردها الغضب (مشهد عبور حافلة أبو صبحي من مشاهد الفيلم الأولى).
«رضوان»: غريب يبتلعه ضَلاله، فيجرف بهلاكه حيوات من حوله بحفنة من الفناء.
خالٌ لأمجد: (يكبره بعقد من الانتظار، وهو الذي سيقصُّ الفيلم، على عادة سينما (الرواية) في خياطة الحبكة) سيدلق الصدمة على ابن أخته وعلى رضوان لمّا يخاله وقتئذ ضحية كأمجد، وقد يُخْطَفُ زمن للخلف، نرى فيه خال أمجد يحدج النظر بصمت إلى رفيق سلاحه رضوان الذي ابتلعَه تشتتٌ خفيٌّ متوار في لسانه الهامد، هذا الزمان المخطوف واحد من ثلاثة أزمان ستخطفُ للخلف.. للقلق، أوَّلها مشهد الحدود، أما الأخير فهو حي نصف عشوائي قبل عشر سنين– أطفال يتبادلون النار والتمرد على ناصية إحدى الحدائق، ولا يعيرهم المارون اهتماماً.
«أم أمجد»: في هنيهات ما قبل التشظي ستطل من شرفة للأثير على ابنها المحلق في منظور ثلاثي الأبعاد مع أشلائه الطائرة.
«أم رضوان»: تمسي الانفجار بعدما ذهبت لتهدي قاتلها سجادة صلاة تليق بعريس بشّرها به.
«أصدقاء رضوان»: - نصف كومبارس- رفاقه في ردم الواحات، لحى يتجول فيها العبوس تدوخ في عماء الأسطوري، سيمتطون المصادفة الإلهية لزجِّ أم رضوان مع ابنها في ورثة فردوس الفائزين..
«رسامٌ له العتبات وحدها كضيف هم»
«الكومبارس»: حيث أي سوري يظفر بإيحاء التجاعيد يصلح لتلك الأدوار، فالشوارع والأفران والمعتقلات تغص بهؤلاء.
«الرافضون للخيارات الموبوءة، من يتولون دائماً حراسة القبس (سيخوّنون كثيرا لأنهم من يطعنون المنفى ويدعون لغير الوغى، فمنافيهم أغينة للمارّين في الغد لا نحوه».
«آخرون سيظهرون قابعين في البريِّ في الكهولة المدثرة بالسماء، في كلِّ ما هو بسيط كالحقيقة لكنه عميق».
«مجهولون يتآمرون على كل ما سبق..».
«مدن التراب المتجهة نحو العمق حتى يزجرها حانوتي من بعيد: (لا..لا ليس بالقتل وحده يحيا العدم)».
الفيلم يُفْتَتحُ بلوحة ترسمها يد تنشر تفاصيل مكان، هذا المكان حتماً هو سورية بما يحوزه من كآبة، فاللوحة نزهةٌ لكل درجات الأسود والرمادي والبني وأشكالها عرجاء الملامح، تختلط وتفترق باتساق يرتبه شيء مجهول يُشارُ إليه باللون الناري الوحيد في اللوحة، الذي يفصل بين الهيئات المذعنة له، والمرسم أيضاً يشبه سورية يبدو وحيداً كاللون الناري، يتآكل بضباب الظلام و بعض زواياه ملقاة في أهوال العماء.
ومن ذاك المشهد ستبدؤون بمطاردة مرامي ومقاصد هذا الفيلم لأنه سيطأ الهذيان، سيضجُّ بالعويل، سيعرض تلفاز فيه- قد يكون في بيت أم أمجد – طفلاً بثقوب سوداء تشبه سراديب العقارب، منتفخاً كحية الجُدَّاث الضخمة، مثّلت أشباحٌ قادمة من اللا مشاهد بجثته، وهذا اللا مشاهد ربما جلس يوماً بجانبك في الحافلة عندما شكرته على فتح باب الحافلة البعيد عنك.
قد يكون العمل في برهات منه محموماً طائشاً يندفع للردى ويلهث في احتواء ما جرى، ويمكن أن يستشرف بقعا لم يزاولها الإجرامي البشري بعد، على دأب الإبداع في اجتهادات المستقبل (فرب واقع قلد فيما بعد اللا واقع الذي حاكاه)، فهو بتخبُّطه الأصيل كأي ارتعاش عَقِبَ مجزرة ينبش الدهر ليقيس الحقيقة، والشهّاد يتربصون له بما ينسجونه من حكايا متناقضة وواقعه يقطن في الوعي المختلف عند كل آخر لذا الفيلم ينشط ليكون تطهيراً بانورامياً يقتحم الأطراف ويَجتَث غلبة الصفات على الوظائف فالرصاصة مثلاً التي تلهي العقل بصفاتها، فتغدو دجلاً أو جبناً أو بطولةً أو جهاداً أو تأطيراً للمؤامرة، هي في العمل نذرٌ لوظيفتها الأخيرة وسلوكها الأبدي وهو الحتف المتحمِّس لحيّ أمامها..
الكاميرا في هذا الفيلم قد تتمرد مراراً،لأن سينما ما بعد الخراب، تشيح عن خلاًقها وتُفكُّ من وتد من يهبها الجريان، لتشي بالكثير من المراد تهميشه، لذا فهي تشحذ كل العروض من البوح الخفيف إلى القوي العاطفي ثم قد تعنى بتشكيل الصورة كلوحة الرسام في عتبات الفيلم وقد تؤوب للمباشر السطحي، قبل أن تقبض على الرمزي والحكائي والحركي والتقني، فمآلها حشر زمن في زاوية باهرة.
لكن هذا الفيلم قد يُترك منهوباً، يغريه تشويق وتوثيق المأساة التي تمادت به العدسة والقتل الذي ارتدى حكمة الفكاهات الأرضية، ليغفل عن جوهر سر بقي في الماضي في فيض المنسيات والمغيَّبات، فزمنه تاريخ قنبلة..
سيحصد الفيلم جوائز الخيبة، فهَبْ أنه وفق في تصوير نمو الأجداث وفي التقاط من سينهض ليذكّر الرهط بنقاوتهم وبحقولهم المتجاورة، عندما كانوا يتدبرون بحيلة الساذج مكائد لتجار العرق وربما يوفّق أيضاً في التقاط من ذكرهم بحروبهم السابقة، لمّا اقتسمت الرغيف أديان الرب جميعها الموشومة على أيديهم المنذورة لحماية أنبياء الله،لمّا كانوا حكيمين كأنبياء متقاعدين، قبل إنصاتهم لشيطان الرمال أو للفراغ.
أما الوجوم فهو حيرة العمل، هو مسافة في الوجوه ماثل تحت التضاد (فلا موت ولا حياة)،والوجوم اختبار الهاوية قبل معانقتها، بعضهم سيخفيه في هاوية النعش المتجهة للمدينة الثانية، آخرون بعد دفنهم معه سيكتبون على الشواهد إحدى الجملتين: «يموت الإنسان ويبقى رماده أو يموت الإنسان ويبقى تلاشيه».
لذا فالفيلم قادمة نحوه/ جائزة الفجيعة المتأنّية/ وموسيقاه التي تنزّ موعداً مع هيجان مؤجَّل وأحياناً استجداءً لاشتقاقات الخلاص، قد تنال هي الأخرى جائزة/ مراثي الحماقات.
■■