ثقوب السفينة
«لن أعير أي اهتمامٍ لكل ما يقال.. دعوني أرى صور الأكفان البيضاء.. دعوني أرى الجثث تطفو فوق سطح المياه.. اعزفوا الموسيقى المؤثرة لتنهمر دموع الأجسام النحيلة الحزينة، أنا لا أهتم، أولئك المهاجرين كالصراصير، يستطيعون النجاة من انفجار قنبلة نووية، أتريدون قوارب إنقاذ لهم؟ أنا أود مواجهتهم بسفن حربية إن استلزم الأمر..»
فجرت صحيفة الـ«صن» عاصفة إعلامية من نوع مميز قبل عدة أيام، بعد أن وافقت أن تنشر التصريح هذا بقلم «كايتي هوبكينز» إحدى أشهر محرريها، وبالتزامن مع إعلان السلطات الأوروبية ومكتب الأمم المتحدة للاجئين، الذي زف لأوروبا والعالم نبأ غرق أكثر من 700 مهاجر غير شرعي قبالة السواحل الليبية، لتضاف هذه المأساة إلى سلسة طويلة من مثيلاتها، أسكنت أرواحاً لا تحصى عمق البحر الأبيض المتوسط، وفتحت الباب أمام سجال جديد تشهده عواصم صنع القرار الأوروبية بين الحين والآخر، تتقاذف فيه التهم وتستفيض في التخطيط لحلول لم تبصر النور بعد.
دعاية إعلامية!
قالت المتحدثة باسم المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في إيطاليا كارلوتا سامي «بإمكاننا ان نقول أن 800 شخص قضوا» في الحادث، في حصيلة سرعان ما أكدها المتحدث باسم المنظمة الدولية بعد أن تمكن ممثلون عن المفوضية والمنظمة من إجراء مقابلات مع غالبية الناجين الـ27 الذين وصلوا إلى مرفأ كاتانيا قرابة منتصف الليل، ولتطفو على السطح تفاصيل الحادثة المؤلمة بعد أن تبين فقدان أطفال تتراوح أعمارهم بين 10 و12 عاماً، وعدد كبير من السوريين، وحوالى 150 أريتريا، وصوماليين، كانوا قد أبحروا من طرابلس منذ الصباح، لكن سفينتهم الصغيرة غرقت بسبب فقدانها توازنها، بعد أن تحرك بهلع جموع المهاجرين الذين كانوا على متنها لدى اقتراب سفينة شحن برتغالية أتت لنجدتها.
تعالت الأحاديث والتعليقات التلفزيونية والصحفية لبعض الوقت، لتعود الأمور إلى طبيعتها بعد عدة أيام، وتداعى قادة الاتحاد الأوروبية لعقد قمة استثنائية في بروكسل «لمناقشة الإجراءات الواجب اتخاذها لمكافحة الهجرة غير الشرعية» بعد أن تناقلت العديد من التقارير توقعات بارتفاع عدد الرحلات البحرية غير المشروعة خلال الشهور القليلة القادمة، مما ينذر بكارثة إنسانية غير مسبوقة إن استمرت الحال كما هي عليه الآن، استحضر جدول الأعمال للمرة الأولى نمطاً صارماً للغاية في التعامل مع هذه الأزمة الطارئة، وبدا وكأن اقتراح «كايتي هوبكينز» قد لاقى استحساناً عند البعض، فوافق الكثيرون على تنفيذ خطة تقضي بمنع المهاجرين من الانطلاق أساساً عن طريق «قصف» القوارب بالسفن الحربية، واستخدام ما يلزم من قوة عسكرية لتدمير القوارب التي تستخدم في عملية نقل المهاجرين، بغية الحد من نشاطها بشكل حازم، لكن التحذيرات سرعان ما تصاعدت لتظهر صعوبة تنفيذ مثل تلك الإجراءات، دون التعرض لسيادة العديد من الدول في مياهها الإقليمية، وبعد أن بينت الأرقام كلفة مرتفعة للغاية قد تدفع العديد من الدول المشاركة للانسحاب من «الحلف» الذي بدأ الاتحاد الأوروبي بتدعيمه منذ السنة الماضية، لتتحول تلك المداولات جميعها إلى دعاية إعلامية تطمئن الأوروبيين القلقين من «يسرق» المهاجرون وظائفهم كما تروج العديد من المنابر الإعلامية هناك.
هبات مجانية
تزداد ثقوب السفينة يوماً بعد يوم، ولم يعد بالإمكان التعامل مع تلك الحوادث بشكل فردي على الإطلاق، لتقع على الجميع مسؤولية الأرواح الغارقة كل حين في مياه المتوسط، كما أن تلك الحلول «العدائية» المستجدة لن تحقق أي جديد بل ستدفع المهربين لاستنباط طرق جديدة للمراوغة والهروب، مما يعرض حياة الهائمين على وجه المياه لمزيد من الأخطار، كما أن التلكؤ في مساعدة من لم تحمله الأمواج إلى بر الأمان، يجعل من الأجساد المرمية على الشواطئ مادة دسمة لسجالات الخصوم السياسيين، وهبة مجانية لداعمي الحلول العدائية العنصرية، التي تحاول أن توهمنا بأنها ترى في البحر «خطراً» على أرواح أولئك المساكين، إلى أن تنفجر العنصرية البغيضة من مكان آخر، لتلقي علينا أبشع الصفات وتطلق النيران على القوارب الصدئة.