الموتى كماً ونوعاً

الموتى كماً ونوعاً

«عثر على 30 جثة طافية على ضفاف نهر الغانج قرب إحدى المدن الهندية، وتعود هذه الجثث لفتيات غير متزوجات ألقين في النهر ضمن طقوس جنائزية غريبة. تجاوز عدد ضحايا فيروس إيبولا الـ7 آلاف. قتل في سورية 76 ألف شخص خلال عام 2014».

لا يهم إن نقصت تلك الإحصائيات وغيرها عشرةً أو مائة أو ألفاً. فموتنا «نحن» دول العالم الثالث والرابع والخامس لا معنى له. لم يعد أحدٌ يسأل عن القاتل، نحن نقتل فحسب. والتحقيقات بحثاً عن المذنب تتأخر. نحن كثر، نموت كثيراً ونقتل كثيراً، فلا معنى لموتنا. لكن في المقابل، هناك ضحايا «نوعيون»، لموتهم قيمة أكبر وأكثر ألماً.
إذا ما حاول المرء الرجوع إلى الأخبار التي ركّزت عليها وسائل الإعلام الغربية الأشهر الماضية، يمكن تمييز ثلاث فرقٍ من الضحايا القيمين. الذي رسمت حكايتهم خط السياسات الإعلامية والدولية اللاحقة.
قتل المراهقين.. نقطة الصفر
تصدر المراهقون الإسرائيلييون الذين اختطفوا في الضفة الغربية قائمة «أحباب»وسائل الإعلام الغربية. إذ خصصت السي إن إن وفوكس نيوز ساعات طوال لرصد آخر المستجدات في عمليات البحث عن الشبان، والجهود في حفظ الأمن الإسرائيلي. كذلك تم إجراء مقابلات مطوّلة ذات طابع عاطفي مع ذوي الشبان وأصدقائهم. فيما غزت صور الثلاثة جميع تلك القنوات، بحيث أصبحت ملامح الوجوه مألوفة للمشاهد. بعد ذلك بدأت تلك الوسائل، بصورة ممنهجة، تبرير جميع الممارسات اللاحقة للاحتلال الإسرائيلي بدءاً من لحظة اختطاف الشبان، كما لو أن تاريخ الصراع العربي الفلسطيني بدأ هنا. فعلى سبيل المثال تكتب البي بي سي مؤخراً في خبر نشرته عبر موقعها الإلكتروني (6-1):«تسببت عملية اختطاف المراهقين الثلاثة بشن إسرائيل حرباً على قطاع غزة الصيف الماضي، استمرت 50 يوماً، وصفت بأنها أسوأ جولة من العنف الإسرائيلي الفلسطيني منذ سنوات». وبذلك بُررت جميع السياسات اللاحقة انطلقاً من قضية المراهقين. فكانت الأخبار تأتي على شاكلة: «اعتقال أربعين فلسطينياً ضمن رحلة البحث عن الشبان الفلسطينيين، أو إسرائيل تشن حرباً على حماس على هامش قضية قتل 3 مراهقين.»
رأسٌ «لم يحن وقت قطافه»
ضمن جميع الممارسات التي قام بها تنظيم الدولة الإسلامية من أعمال قتل وترهيب وقطعٍ للرؤوس، كان لرأسٌ واحد أهمية خاصة بالنسبة لوسائل الإعلام الغربية. طوال أشهر، ومع ازدياد تواتر الأخبار التي تغطي ممارسات داعش، هدفت معظم التقارير الإخبارية إلى بث الرعب لدى الرأي العام الغربي حول تنامي خطر الإرهاب. ويمكن الجزم الآن أن رسائل التخويف تلك استهدفت تهيئة الرأي العام لقبول فكرة التحالف الدولي ضد داعش. وأية خطوات دولية قادمة قد تنفذها أمريكا في حربها ضد الإرهاب.لم تستطع وسائل الإعلام الأمريكية، وبالرغم من حجم الاستثمار في صناعة الخوف، تحقيق مرادها بالكامل في ذلك الحين ، لأن الأخبار الواردة عن الشرق بقيت بعيدة عن الشقق والبيوت الآمنة للأمريكيين في الولايات الأمريكية. وهنا كان لا بد من إدخال جرعة من الواقعية، أو صفعة على الوجه، توقظ الأمريكيين من غفوتهم وتخبرهم بأن الإرهاب وصل إليهم. وهنا جاء دور «جايمس فولي». استيقظ الأمريكيون ذات يوم على مشاهد مؤلمة تصور الصحفي الشاب، حليق الرأس وهو يرتدي بزةً برتقالية ويتم قطع رأسه من قبل ملثمين من تنظيم القاعدة. انتشرت تلك المشاهد عدة ساعات على مواقع التواصل الاجتماعي قبل أن تبدأ الخطوات لحذفها. «لأنها أقسى من أن يحتملها الرأي العام الغربي»، فالمقتول هذه المرة «ابنهم» وليس مجرد عربيٍ مسكينٍ آخر. وعلى غرار تغطية قضية المراهقين الثلاثة، بدأت قنوات الإعلام الأمريكية، تغطيتها «العاطفية» للقضية، مركزة على شهادات من عائلة فولي وذويه وأصدقائه.  فعلى سبيل المثال وضمن مقابلة مع والدة الصحفي في برنامج “أون ذا ريكورد” عبر قناة فوكس نيوز تقول الأم: أنها علمت بمقتل ابنها بعد أن اتصل فيها أحد الصحفيين باكياً يٍسألها إن كانت شاهدت الأخبار. وتضيف بأنها لم تشاهد شريط ذبح ابنها كاملاً»: لم أشاهده كاملاً، لم أرد ذلك. تلك هي البروباغندا الخاصة بهم، يريدون إخافتنا، ولذلك نحن لا نحتاج مشاهدته«. وبعد ذلك تم استغلال قضية جيمس فولي في الداخل الأمريكي، كورقة ضغط على الحكومة الأمريكية، حيث شنت قنوات الإعلام الأكثر تطرفاً وفي مقدمتها فوكس نيوز حرباً على إدارة أوباما، باعتباره لم يقم بما يكفي لتحرير فولي الذي ضل في حوزة التنظيم منذ عام 2012. وبعد مقتل فولي بأسابيع كثرت التقارير التي تعالج قضية الحدود مع المكسيك وإمكانية تسلل الإرهاب من هناك كي يستفرد بالأمريكيين في عقر دارهم! بحيث يمكن القول أن تلك القنوات نجحت في جعل قضية الإرهاب، شخصية، تهدد حياة كل واحد منهم.
قتل الابتسامة وحرية التعبير
قيل الكثير عن حادثة قتل كادر التحرير في أسبوعية شارلي إيبدو، وبالتأكيد أن هناك الكثير الذي سيقال بعد. لكن المؤكد أن رسامي الكاريكتير تحولوا في غضون ساعات من موتهم إلى أبطالٍ أزليين، حينما سارعت وسائل الإعلام لاستخدام عبارات تقارب حادثة موتهم بأحداث كونية، وتعتبر أن موتهم لحظة انقلابية لا تقل أهمية عن حادثة 11 سبتمبر. وإذا ما تمعّن المرء في الضحايا الجدد هذه المرة سيجد أنهم يمتلكون في نظر الرأي العام الغربي مقومات تجعلهم يستأثرون باهتمامه. فهم رسامون، مثقفون، أذكياء، مضحكون، منفتحون ويحاربون المعتقدات والأديان والثوابت. والأهم بذلك كله، أنهم يختصرون مفهوم حرية التعبير بالحدود الضيّقة التي يروج لها الغرب. وإن كانت قضية مقتل رسامي شارلي إيبدو ما تزال طازجة لا يستطيع المرء التكهن بالنهاية التي ستصل إليها، أو كيف ستأثر في مجرى الأحداث الدولية. إلا أن طريقة التعاطي الإعلامي حتى الآن تشي بأن الحرب على الإرهاب دخلت مرحلة جديدة بموتهم. تجعلهم بكل المقاييس ضحايا نوعيين في نظر الإعلام الغربي، لينضموا بدورهم إلى جيمس فولي والمراهقين الإسرائليين الثلاثة، مقابل الكم الذي تبقى من ضحايا الكوكب.
قد تأخذ التحقيقات بحثاً عن الفاعل الحقيقي وراء تلك الحوادث الثلاث سنواتٍ، وغالباً لن تصل إلى شيء. لكن الجدوى السياسية والإعلامية من موت هؤلاء الضحايا كانت أكثر قيمة من بقائهم أحياء. تلك هي الحقيقة التي تزيد الشكوك حول هوية المذنب الفعلي. من المذهل حقاً تأمل التقارير الإخبارية والكيفية التي يتم بها صياغة الرسائل الإعلامية التي تشرعن قتل الآلاف حول العالم وتشريدهم ونهب مقدرات بلدانهم واحتلال أراضيهم انتقاماً لحفنةٍ من الأشخاص.