فصام

فصام

كثيراً ما تعاودني الذكرى المشوشة ذاتها.. كنت أجلس برفقة أحد الأصدقاء في مقعد خلفي في باص يعود بي إلى منزلي في جديدة عرطوز ذات مساء من عام 2008. كان مساء ككل المساءات: الأوتوستراد الطويل الرتيب، الموسيقا التي تنبعث من راديو السائق

 ربما كنّا عائدين من قلب العاصمة إلى ريفها بعد أن قمنا بأنشطتنا التقليدية في المشي في شوارع دمشق أو حضور أحد الأفلام..  أتذكر أن صديقي كان يحدثني عن الأزمة المالية العالمية. لأننا كنّا هكذا! نملك الوقت والصبر. نتمتع بترف فتح أحاديث معقدة في مقعد خلفي في باص. لم أكن حينها أفهم الكثير عن الاقتصاد (لم أزدد فهماً الآن) ولذلك أتذكر المصطلحات الاقتصادية التي ما تزال تطن في رأسي دون رابط واضح: التضخم، الدولار معادل نقدي، سندات، بنوك، بيوت فارغة وأشخاص دون مأوى. أتذكر جيداً أننا وأثناء الحديث وصلنا إلى نقطة مفصلية، شرح لي صديقي عندها أن الرأسمالية تحاول حل أزماتها من خلال الحروب، تحدث عن تجارة السلاح والاستثمار في الحرب وأضاف أن حمّى الحرب ستصل إلينا وتأخذنا في طريقها.. لا أتذكر الآن تعابير وجهي..  إلا أنها ربما شحبت، لأن صديقي اضطر يومها التخلي عن موضوعيته واستنتاجاته. وبدأ يخفف من هول «النبوءة».
أتذكر الآن سيل الكلمات والصور النمطية المستقاة من الكتب والأحاديث والأفلام، تداعت في ذهني دون ترتيب: العراق، رجال يتبارزون بالسيوف، جرس إنذار، دماء، فوضى، نشرات أخبار، صبرا وشتيلا، موت.. كما لو  أنني بحثت في «غوغل» رأسي عن كلمة حرب،  وظهرت كل النتائج ذات الصلة بالكلمة. لم أفهم حينها كيف للحروب بما فيها من خسائر ودمار أن تكون حلاً لأزمة اقتصادية، وكيف يمكن للنقود أن تفقد قيمتها وتتضخم. أيعقل أن  نكون نحن ضمن حرب حقيقية؟ مع صراخٍ وتدافعٍ وبكاء؟  هل يمكن أن يحدث ذلك حقاً؟ ظل السؤال معلقاً في المقعد الخلفي في الباص. ونحن نزلنا على اليمين عند الموقف.
أتذكر ذلك المساء وترتسم على وجهي ابتسامة شاحبة. كل تفصيّل صغيّر في ذلك الحدث تغّير: أنا غيّرت مكان سكني واختبأت في قلب دمشق، بت أتحرك مشياً على الأقدام. أوتستراد المعضميّة اليوم يبدو بعيداً مظلماً مهجوراً. ولا أتذكر آخر مرة ذهبت فيها لحضور فيلم في سينما.
كثيراً ما أستيقظ اليوم لأجد نفسي سائرة في شارع مرصوف بالحجارة يفضي إلى «كراج الست» أو «باب سريجة». أسأل نفسي كيف انتهى بي المطاف هنا، ليصبح هذا الطريق المرصوف، المسار اليومي المفضي إلى المنزل، تمر أحداث الأعوام الثلاثة كشريط صور. أشعر بالصداع.
 كان صديقي محقاً، ودرس الاقتصاد الذي بدا معقداً مجرداً أمسى اليوم شديد الواقعية، تسمعه يتردد على ألسنة باعة الخضار وطلبة المدارس وسائقي الباصات. أحاول أحياناً ابتداع لقاء متخيّل بين تلك الفتاة المذعورة زمن السلم، وبين النسخة المعدّلة من الفتاة ذاتها بعد كل ما حدث. ستخبر الأولى مخاوفها للثانية، فتسخر منها الأخيرة وتروي لها مشاهداتها في الحرب. وقد تشرح لها كيف يمكن للحرب أن تكون صفقةً مربحة!
ربما اختبرنا جميعنا لحظات انقلاب كهذه أدركنا فيها أن الحال تغيرت، وأن البلاد لن تعود كما كانت. لكلٍ منا نسخ من ذوات متعددة، محسّنة أو أكثر سوءاً. تلتقي هذه الشخوص في أحلام الليل أو اليقظة. تتجادل، تتبادل الذكريات والأخبار. وبالرغم من أن تعدد الشخصيات وانقلابها قد يسمى فصاماً. إلا أنه لم يكن جنوناً أو اضطراباً في بلادنا. لأن من احتفظ بذات واحدة، لم تصقلها الحرب أو تجبرها على إعادة النظر  والتفكير عند كل منعطف أو تطور جديد، لم يعش في هذه البلاد حقاً.