أم الدنيا ومشروع «القوة الناعمة»..
مصر أم الدنيا، صدرت ثقافتها وعلومها إلى معظم حضارات العالم منذ آلاف السنين وأثرت على ثقافات أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا وغيرها. وتتفاعل جوانب كثيرة من الثقافة المصرية القديمة مع الحاضر، ولكنها اليوم، تمر بأسوأ أحوالها. إذ تعيش لحظة إحباط واصطدام بالواقع الجديد.
فقد عقدت الآمال على تغيير حقيقي من نقطة بداية جديدة فرضها الواقع الموضوعي والتغييرات المتسارعة في البنية السياسية والاجتماعية والفكرية. لكن جاءت النتيجة مخيبة للآمال بعد أكثر من ثلاثة أعوام من لحظة التغيير.
حلول غير تقليدية
يبدي العديد من المثقفين المصريين الكثير من التخوفات حول استمرار «الحالة الثقافية المصرية» على ما هي عليه، خاصة بعد الحراك الذي أطاح بحسني مبارك وسياساته التي اعتمدت فترة طويلة على «تدجين» المثقفين، وإنهاء دورهم الوظيفي من جهة، ثم الإطاحة بحُكمَ «الإخوان المسلمين» الأكثر تهديداً للهوية الوطنية المصرية، وللمكتسبات التي كافح المثقفون لإقرارها وتثبيتها من جهة أخرى.
يرى كثير من هؤلاء المثقفين ضرورة التعويل في إحداث التغيير الثقافي المأمول على حلول غير تقليدية، إذ لا يمكن اليوم لأحد كائناً من كان أن يقدم للثقافة المصرية ما تحتاجه للانتقال إلى حال نوعي آخر، لأن المشكلة الأساسية تكمن في إمكانية تجاوز جماعات المصالح التي فسدت وأفسدت أيام مبارك، وإحداث تغيير حقيقي في قضيتين أساسيتين هما العدالة الاجتماعية وحريات الفكر والتعبير.
كم هائل ونوعية رديئة..
هناك دائماً إنتاج ثقافي جديد، لكن المشكلة تتعلق بالنوعية ومستوى الجودة ومدى قدرة العمل الإبداعي على الصمود لفترات أطول. فقد انتشرت مؤخراً ضمن الطوفان الإعلامي الجارف مؤلفات وأعمال إبداعية امتازت بلهاثها وراء الحدث ومحاولتها اللحاق به؛ مما جعلها تكون - في معظمها - سطحية وغير مقنعة، ولم تستطع الصمود طويلاً أمام اختبار الواقع المتغير سريعاً. وأثارت الكثير من الأعمال الأدبية ضجيجاً كبيراً وغباراً كثيراً دون أن تترك أثراً مهماً فيخفت وهجها بعد فترة قصيرة جداً.
رداء ممزق..
تعيش الثقافة حالة أزمة حقيقية، سببها الأساسي غياب مشروع ثقافي وطني حقيقي وسيادة الفساد بكل أشكاله، فالفساد يعشش في كل مكان، وكان لوزارة الثقافة المصرية حصتها الكبيرة منه، مما جعلها تصبح عبئاً على الدولة والمجتمع، في ظل غياب مشروع أو رؤية أو استراتيجية تعيد لها دورها في المشروع الوطني العام.
وانعكس هذا الوضع الرديء على مواقف المثقفين المختلفة من قضايا هامة ومفصلية، وانجرفت «النخبة» وراء الخطابات الإعلامية، بدلاً من أن تلعب دورها الوطني بحيث تؤثر من خلال وعيها في مسار حركة التطور الجارية في البلاد.
ورغم أن عدداً من المثقفين المصريين يرجع بحالة التردي التي تعيشها الثقافة إلى الهيكلية التي تقوم عليها المؤسسات الثقافية وعلى رأسها وزارة الثقافة والمشاكل البنيوية التي تعاني منها مثل قلة الميزانية، وإغلاق بعض المراكز الثقافية، وتعيين آلاف الموظفين الزائدين عن الحاجة، الذين أثقلوا القطاعات الثقافية المثقلة أصلاً، وعدم خروج الاختيارات للمناصب عن التقاليد القديمة المعتمدة على الولاءات، إضافة إلى أن «وزير الثقافة» غالباً ما يكون الأقرب دائماً للخروج في أي تغيير وزاري، باعتباره وزيراً زائداً وغير مؤثر، كل هذا يتم في بلد تباهي العالم بثقافتها. بالإضافة إلى تحول بعض المثقفين إلى أبواق مهللة. إلا أن الحقيقة تكمن في مكان آخر.
مشروع وطني حقيقي..
فكل ما ذكر يؤثر فعلاً في الواقع الثقافي العام في مصر، ولكن السبب الأساسي يكمن في غياب مشروع وطني حقيقي متكامل، ينطلق من الحاجات الأساسية لحركة التطور الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للبلاد، ويؤسس لتغيير جذري في كل المنظومة السابقة.
هذا غيض من فيض واقع طرح ويطرح أسئلة كثيرة وعميقة. ويبقى السؤال الأهم هل يمكن بناء حالة ثقافية جديدة تعتمد منطق اعتبار الثقافة فعلاً دنيوياً قادراً على التعامل جدلياً مع التراث الحضاري المصري المعقد والممتد في عمق التاريخ الإنساني.