أوساط ثقافية..
خلال الأسابيع الماضية، حصلت حوادث منفصلة في أماكن متفرقة من العاصمة دمشق ضمن فعاليات ثقافية وعلمية، قدمت صورةً هزليةً ومؤلمة -إلى جانب كونها مثيرةً للغضب- حول المناخ الذي يسود بعض الأوساط الثقافية السورية اليوم، وبين من يطلقون على أنفسهم، دون أدنى قدرٍ من التواضع «نخبة المجتمع».
يحضر بعض الطلبة ورشة عمل حول «إعادة الإعمار» التي أقامتها كلية الاقتصاد في جامعة دمشق، بمشاركة رسمية واسعة، ويصدمون بواقع أن مقدمة (الحفل- الورشة) وبعض المنظمين والطلبة لم يلتزموا بأبسط الآداب العامة المتعلقة بارتداء ثياب تتلاءم مع نشاط علمي يقام في مدرج جامعي، أو مع هول المهمة التي تحاول الورشة نقاشها. فيما ساد بين بعض الأساتذة وطالباتهم نوع من «الأهلية» المبالغ بها.
بعد أسابيع من ذلك، وفي بناء دار الأوبرا الضخم، أذهب برفقة بعض الأصدقاء لحضور افتتاح مهرجان الأفلام السينمائية القصيرة، يتحول الافتتاح الذي يحتفي بالتاريخ العريق لمؤسسة السينما إلى بروباغندا سياسية مباشرة وجامدة، لا تحافظ على أي درجة من الاستقلال النسبي لمؤسسات الدولة ومنها المؤسسة العامة للسينما، ودار الأوبرا، والمعهد العالي للفنون المسرحية، باعتبارها مؤسسات ثقافية وطنية.
وأثناء تكريم بعض الفنانين والموسيقيين، يصعد أحد أعمدة الإخراج السينمائي السوري إلى الخشبة لاستلام جائزته، يلتقط المايكروفون من المذيعة، ويلقي خطبة مطولة حول جيل الشباب وصمود البلاد. في البداية نؤخذ نحن الشباب بعفوية المخرج الكبير وخفة ظله، وتنطلق الضحكات والابتسامات حينما يتغزل بجمال الفتيات الحاضرات. إلا أن الخطبة تطول، ويبدأ الجمهور بالتململ، فيما تظهر الحيرة على منظمي المهرجان الذين يحاولون تدارك الموضوع ودفع المخرج للتوقف عن الكلام دون إثارة جلبة.
في مكانٍ آخر، داخل أحد مقاهي باب شرقي يستعد بعض العازفين لإحياء حفلة موسيقية، إلا أن ظنهم يخيب بالجمهور الذي توزّع بين شعراء يائسين سكارى، ومثقفين متزلفين، فيما كاميرا التلفزيون السوري توثّق الأنشطة الصغيرة قبل الكبيرة، لإثبات أن الجو في الداخل السوري «ينبض بالثقافة»!
في السابق كان المثقف يتهم بالانفصال عن الواقع. إلا أنه تمتع حتى في ذلك الوقت بهالةٍ ما، باعتباره نموذجاً موضع احترام، ومصدراً للنصح والمعلومات. سادت الصورة النمطية عن المثقّف حينذاك كشخص رث الملابس، يضع نظارة سميكة ويحمل في يده جريدة. وبالرغم من محدودية وابتذال تلك الصورة، إلا أنه نموذج تشتاقه شرائح واسعة من الناس اليوم، ليس لإيجابيته، وإنما لسوء النموذج البديل! حينما أصبحت بعض الأجواء الثقافية اليوم مشابهة للـ«كزينوهات»، وبعدما ساد اتجاه عند البعض بأن محاربة الفكر المتطرف يتم بتقصر التنانير!.
على الضفة الأخرى
في المقابل لا ينقل من سافر خارج البلاد صورة مختلفة كثيراً عن أجواء الصالونات الأدبية والعروض السينمائية التي تقيمها بعض شرائح المثقفين في لبنان وفرنسا وألمانيا والسويد وغيرها من بلدان العالم، وهو انقسامٌ مضحك في الأدوار والتسميات السياسية عندما يتشابه شكل الأداء الثقافي. بالرغم من أنه تقارب لا يثير الاستغراب إذ أن هؤلاء «المتثاقفين» تخرجوا من المقاهي والتجمعات نفسها الموبوءة قبل أن تقسمهم السياسة.
ما يخفف من هول «المصيبة الثقافية» أنه كان هناك دائماً، في كل زمانٍ ومكان، مثقفون حقيقيون بعقولٍ متحفزة، يعملون في الظل في مكانٍ ما بعيداً عن الضوضاء والأضواء.
نستحق أكثر من ذلك
في نهاية كل نشاط آنف الذكر، يشكر المنظمون الجمهور لتكبده عناء القدوم في ظل الأوضاع الأمنية الخطرة. يشكرونهم لأنهم يقاومون كل ما يجري لإثبات أن الحياة في الداخل ما تزال ممكنة. لأن الثقافة إحدى الأدوات الممكنة لكسب المعركة. والحقيقية أن الكثير من الشبان السوريين يستحقون الشكر فعلاً للأسباب ذاتها. لكنهم يستحقون أيضاً احترام وقتهم وعقولهم وحيواتهم التي يضعونها على المحك حينما يخرجون من منازلهم كي يتعلموا شيئاً جديداً، أو يسمعوا موسيقا جميلة، أو لأنهم يحتاجون ببساطة أن يلفهم الظلام في قاعة سينما أمام الشاشة الكبيرة، إلى أن تخفت أصوات العالم الخارجي. كي ينسوا لبعض الوقت فقط أن في الخارج حرباً.