فنانون جدد في متاهة المدينة والذاكرة والجسد
روان عز الدين روان عز الدين

فنانون جدد في متاهة المدينة والذاكرة والجسد

للمرة الأولى، يحمل المعرض الجماعي السنوي الذي يقيمه «مركز بيروت للفن» (BAC) للفنانين الجدد، عنواناً محدداً. «قيد البنيان» هو النقطة التي انطلقت منها أعمال الفنانين التسعة، الذي لجأوا إلى وسائط وأشكال متنوّعة مثل الفيديو والفوتوغرافيا والتجهيز الصوتي والمجسمات الضخمة

 إذا كانت الأعمال الفنية المشاركة في «عتبات 2014» الذي يحتضنه «مركز بيروت للفن» (جسر الواطي ــ بيروت)، منطلقة من ثيمة واحدة، فإنها طاولت إشكاليات وهواجس متشعّبة. الدورة السادسة من المعرض السنوي تحمل عنوان «قيد البنيان»، ويشارك فيها 9 فنانين وفنانات لبنانيين أو مقيمين في لبنان، اختارتهم لجنة التحكيم المؤلفة من منيرة الصلح وسام بردويل وتيل فيلراث وجيم كويلتي وكيرستن شيد. استدعى الفنانون الجدد أسئلة مراحل البنيان، وتشكّل الذات، والتغيير بوصفه ابتكاراً، وإعادة إنشاء الذاكرة والمحافظة عليها. اختبروا قوالب ووسائط متنوعة مثل الفيديو والفوتوغرافيا والتجهيز الصوتي والمجسمات الضخمة، فأتت نتيجة الأعمال متفاوتة، حيث ظهر بعضها ناقصاً ومفتقراً إلى النضج والبلورة.

لكي نصل إلى تجهيز فيديو «ظل معركة» للزميل روي ديب، علينا أن نجتاز ستائر سوداء داخل غرفة مغلقة. هناك ثلاثة فيديوهات، بالأبيض والأسود، تعرض على جدران متقابلة، بينما نستمع إلى حوار يدور بين عاشقين. يستدعي الحوار الذكي القضية الفلسطينية، فيخلق نقاشاً لموضوع لا نرى صوراً له. عبر الحوار الذي يدخل التفاصيل الحميمة، يقارب ديب هذه العلاقة مع علاقة الإسرائيليين والفلسطينيين. تصبح العلاقة العاطفية، وجدرانها و«المعارك» المتشعبة عنها، ظلاً لمعركة أكبر بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وظلاً للجدار العملاق الذي يفصل بينهما. إنه عمل طموح يسائل الفردي، أمام إحدى أضخم المعارك الجماهيرية، ليتلاشى الخط الفاصل بين ما هو حميمي، وما هو عام. علماً أن عمله الجديد الذي اتخذ خطين؛ سياسي وعاطفي، يدور في إشكاليات شريطه «مونديال 2010» الذي نال عنه العام الماضي جائزة «تيدي» لأفضل فيلم قصير في «مهرجان برلين السينمائي».

في «شيء مستعار»، تحاول تانيا طرابلسي رسم صورتها الذاتية بالاستناد إلى حيوات خمس نساء فوق الثلاثين يعشن العزوبية في لبنان. داخل غرفة زهرية صغيرة، تطالعنا 5 صور فوتوغرافية ذاتية للفنانة اللبنانية، ونسخ مصورة من صفحات مجلات عربية قديمة، تظهر مواضيع لها علاقة بالزواج مثل اختيار فستان العرس. كذلك وضعت طرابلسي خمسة تجهيزات صوتية للنساء، واستوحت خمسة عناصر من المثل الإنكليزي: «شيء قديم، شيء جديد، شيء مستعار، شيء أزرق، ست بنسات في حذائك». قاربت هذا المثل لبنانياً من خلال 5 صور لأشياء محلية.

هل هناك مساحة أمام المرأة، لاختيار العزوبية في عمر متقدم في المجتمع اللبناني؟ نستمع إلى تجارب النساء المختلفة وعلاقتهن مع المحيط، بينما تواجهنا صورة تانيا بفستان أبيض أمام كل تجهيز. تحكي كل امرأة قصتها، وتشرح خياراتها، لتشكّل مجتمعة صورة تعكس التجربة الذاتية للفنانة نفسها.

داخل غرفة مطلية باللون الأخضر، تستقبلنا شاشات ثلاث، تقابلها أغراض مختلفة. إنه عمل «دليل: كيف تحافظ على الذاكرة» للفلسطينية ميرنا بامية. من خلال 12 فيديو قصيراً، تقترح بامية دليلاً ساخراً للحفاظ على الذاكرة. نقرأ تعليمات تبدو مضمونة لحماية وجه الحبيب من النسيان، والجسد، والشخص الميت، والعائلة، والمدينة. هل العقل عضلة يتم تمرينها لحفظ ذكريات محددة؟ في فيدوهاتها التهكمية، تتعامل بامية مع العقل على أنه عضلة. لكن هذا الدليل سيصبح مستحيلاً أمام الأغراض المقابلة الموضوعة على رفوف صغيرة. وبقدر ما تبدو الفيديوهات القصيرة مضبوطة ومسيطرة على الذاكرة، تظهر الأغراض على الجهة الأخرى مبهمة، ومنتقاة عبثياً، من دون وجود رابط واضح بينها. نرى يداً، ودولاب طاولة، وعنقود عنب، ومنحوتة ضفدعة، ومكعباً أخضر وبطاقات هواتف، أشياء تظهّر تشعّب الذاكرة، وآلية عملها الضبابية التي تجعل ضبطها متعذراً.

الذاكرة وإعادة بنائها حاضرة في «اساليب التذكّر: فضلات» لنور بشوتي. تعيد الفنانة الفلسطينية تشكيل ذاكرة إحدى قريباتها التي هاجرت من فلسطين إلى جونية في لبنان، من ثم إلى عمان حيث استقرت، وفقدت بصرها لاحقاً. لم تلتق نور هذه المرأة فيما حصلت على فستان لها. منه ستتسلل إلى ذاكرتها، وتحاول إحياءها من خلال إعادة بناء الفستان، بعد تهديمه (فكفكة خيطانه) بيدها لحوالى شهر كامل. في خمسة مراحل بناء، نرى 31 ورقة لإزالة الوبر لصقت فيها فضلات خيطان وشعر وغبار، كذلك خاطت شعراً على ورق إطار للخياطة. وباللجوء إلى تقنية «برايل» التي يستعملها فاقدو البصر للقراءة والكتابة، رسمت بشوتي فستاناً كبيراً. لاحقاً، تقع أعيننا على بعض تفاصيل الفستان؛ أزرار وسحاب، تمثّل كلها مجموعة وثائق كشاهد على ما لم يعد موجوداً.

يظهر الهاجس المديني بقوّة في أعمال هبة كلش. «فضاءات متنازعة» هو عنوان مشروع الفنانة اللبنانية الذي ضم أوراقاً ولوحات، بأحجام متفاوتة، رسمت عليها فضاءاتها المدينية بالأكريليك والحبر. استندت كلش إلى بعض الخرائط والحواجز الإسمنتية التي أصبحت ملمحاً بارزاً في ديكور بيروت. تجتمع الذاكرة الحية للفنانة مع واقع المدينة وذاكرتها من جهة، ومع عمران المدينة وشكلها الهندسي وعناصرها الفيزيائية المتضاربة من خلال الكولاج الكبير الذي امتد على جدار كامل. الانفجارات، واللقطات المدينية الشاملة في الرسومات، لا تصوّر سوى عملية التدمير وإعادة البناء الآلية والمتكررة في العاصمة اللبنانية. إنه دمار على مستويات عدة: الناس والعمارة والذاكرة.

 

المصدر: الأخبار