اختصارات «نظيفة»!!
(م.)، هي اختصار لكلمة مهندس، كذلك الأمر مع (د.، أ.،..الخ). وهي اختصارات -لا شك- مفيدة، فهي ترفع من درجة الموظف، وبالتالي من سقف الراتب، كما ترفع مكانة صاحبها الاجتماعية، وقد تنفخ رأسه بالفوقية ونزعة التفوق.. لكن هنالك اختصارات أخرى تجري من تحت أقدامنا، وربما تتقافز فوق رؤوسنا، لكن لا نحس بها...
في أحد الشوارع، أبو عكر الحداد، أي (ح.)، يرسم على وجهه المسخم ابتسامة قاسية، بعد أن يقرأ على لوحة الإعلانات: «مع بعض نحافظ على نظافتها»، فيلتقط علبة الدخان التي رماها للتو، ويتلفت حوله ببطء خجلاً مما اقترف، ثم يمضي ناسياً سواد وجهه..
المتسول الصغير، أي (ش.) المشتقة من شحاد.. (وبالمناسبة هذه الشين يمكن أن يستخدمها آخرون.. وأخريات)، هذا المتسول الصغير، لم يبق في وجهه أي ملمح من ملامح الطفولة، سوى ابتسامة مؤقتة نهمة ينثرها فوق صحن نابلسية يتناوله خلسة بأقصى أناقة ونظافة ممكنة، وذلك في الساعة الواحدة والنصف من ليلة نظيفة من كانون الأول.
أكاديمي من النوع الذي تفوح من ملابسه الإيطالية العطور الفرنسية، ما انفك يمدح الباصات الخاصة العملاقة لما توفره من نظافة للبيئة.. ربما يقصد حقيقةً أنها بحجمها الهائل، ستبتلع أكبر قدر ممكن منا- نحن الناس الراجلين - كي لا نتقافز أمام السيارات المحترمة ونقلق راحة سائقيها..
لوحة تعليمات نظيفة، في صالة الانتظار، في شركة تجارية نظيفة تشغل مندوبي مبيعات، جاء في مقدمتها: (على جميع العاملين الالتزام باللباس الرسمي وربطة العنق خلال حملات التسويق)، وعلى مدخل بناية من ذوات الكعب العالي والنظيف لافتة تقول: ممنوع دخول المتسولين ومندوبي المبيعات تحت طائلة مصادرة بضائعهم.
جريدة الكترونية، تنوّه في نظامها الصحفي النظيف الذي على مراسليها الالتزام به.. فتقول حرفياً: (لابد من الابتعاد عن كل الشخصيات الإشكالية، وعدم استخدام الفقراء والمعوقين، المظلومين والمتشردين.. وغيرها من القصص التي قد تجلب القراء، ولكنها تدفعهم للانزعاج أو الشفقة.(..). إنها فرصة للتعريف عن أبطال غير مسلط عليهم الضوء.)!!
الكوميكية (جمع كوميك، وتعني رتبة من رتب الندل لا ترجمة عربية لها سوى ما سيأتي).. محتشدون في غرفة «العدة»، يلمّعون الصحون والملاعق والكؤوس برقة ونعومة ونظافة ودون إصدار أي صوت، ريثما ينهي صاحب المطعم النظيف، هو ومطعمه.. حديثه القصير مع موظف التأمينات، النظيف هو الآخر. وبعدها سيكافؤون بوجبة نظيفة من فضلة خير الزبائن الكرام.
في مدينة ما، قد يكون اسمها دمشق، ما يزال الحفر مستمراً لبناء أبراج مهولة، ليسكنها ذوو الأسنان البيضاء اللامعة والنظيفة حصراً، وفي المقابل، ما يزال أبٌ ما في تخوم المدينة ذاتها، يئن بصمت من التسوس الذي ينخر ضرسه وأعصابه وروحه، كي لا يقلق راحة الألف ليرة التي تنام عميقاً في جيب ابنه، الذي يريد غداً التسجيل في الجامعة..
في المدينة ذاتها.. المدينة المتعطشة إلى حمام ٍ ساخن يغسل عن صباها الشاحب «نظافة» أولئك النظيفين. المطرُ سيهطل يوماً.. لكنه سيهطل من الأسفل..