«قصص» للإيرانية رخشان بني اعتماد.. عمارة فيلمية آسرة
تتشكّل الحكايات المروية في «قصص» الإيرانية رخشان بني اعتماد من تفاصيل يومية عادية، تتجمّع في سياق سينمائي ذي بناء فني متماسك، كتابةً وأداءً وتوليفاً، وتضع الشخصيات في مواجهة ذواتها المشبعة بالألم والقلق والغضب والتوهان في دوائر مغلقة.
الغليان الحاصل في دهاليز السرد الحكائي هو نفسه الغليان الذي يقود أناساً في اتجاهات تتضارب ورغبات وأحلاماً، وتتناقض وحاجات أساسية لعيش هادئ وطبيعي. الفساد المتغلغل في أجهزة رسمية لا يختلف عن فساد مجتمع ناشئ من نظام متحكّم به ومنخرط في لعبة الخراب، ما يؤثّر سلباً في الناس وكراماتهم وحاجاتهم. المخرج الشاب، الذي يحمل كاميراه متنقلاً هنا وهناك كي يوثّق فساد النظام المتحكّم بالعيش اليومي، يكاد يكون الخيط الوحيد الجامع قصصاً موضوعة في سيناريو كتبته رخشان بني اعتماد نفسها بالتعاون مع فريد مصطفافي، وهو سيناريو محبوك درامياً إلى درجة الدهشة: قوة النص ممزوجة بجمالية الحوارات النابعة من أعماق الاحتراق الفردي وسط دمار الجماعة. التصوير (كوهيار كالاري) منبثقٌ من التداخل الدرامي بين قسوة النواة الحكائية ووقائع الحياة اليومية. الكاميرا تتجوّل في الأمكنة كتجوالها في النفوس، وتفضح بعض المخفيّ في الأمكنة كفضحها بعض المبطّن في أحوال الناس ومآزقهم. النص المُصوَّر لا يتردّد عن كشف بعض المستور ـ المعروف، لأنه منطلِقٌ أساساً من تلك التفاصيل التي يجد كثيرون أنفسهم متورطين في متاهاتها القاتلة، من دون أن يملكوا القدرة على تبديلها أو التحرّر منها.
قصص عديدة منفلشة على أحوال بيئة اجتماعية وحالات إنسانية: الرغبة في السفر دونها الاحتيال الذي يقع فيه سائق سيارة أجرة وأفراد عائلته (يسرق المحتالون ماله ويختفون). الشابّة الهاربة من ماضيها، تنكشف أمام السائق نفسه، فإذا بها ضحية ذكورية قاتلة تنهب حريتها وكرامتها وسلامها. التعبير السياسي المُسالِم يذهب بقائله إلى السجن، والمطالبة بحقوق اجتماعية شرعية ـ جرّاء الطرد من المصانع أو الشركات ـ تنكشف في تحرّك شعبي هادئ يكون مصير بعض أصحابه الاعتقال، أو في إلحاح عجوز على الحصول على حقّه من الوزارة المختصّة، لكن من دون فائدة. الفساد واضح: موظف رسمي غير مكترث للناس ومطالبهم لانشغاله بعشيقته عبر التحدّث معها على الهاتف أثناء الدوام الرسمي للعمل. بين هذه العناوين كلّها، هناك الإدمان على المخدرات، ومحاولات الانتحار، والسعي إلى إنقاذ بعض النفوس والأرواح من الخراب التام، والنتائج المخيفة للإدمان على آخرين، والحبّ المعلّق أمام المرض أو العزلة، وخيبة البقاء في قاع المدينة، والآلام الطالعة من الداخل إلى الجسد. عناوين لا تنتهي، لكنها تنسج حبكة متماسكة في أسلوبها السلس في سرد حكاياتها، كما في ترجمتها البصرية إلى مَشَاهد متتالية، كمن يجمع التوثيق الاجتماعي بمتخيّل سينمائي لا يخرج من واقعيته بقدر ما يتواطأ معها في تقديم الحكايات كما هي.
اذا كانت حوارات الفيلم مشغولة بحرفية واقعية، وسلاسة تتضمّن حدّاً كبيراً من العمق الإنساني الباحث في أسئلة الحياة والوجود والمرض والقلق والتحوّلات الحاصلة في البلد، فإن الحوار الأخير بين سائق مركز علاج الإدمان وإحدى العاملات فيه يمتلك قدراً كبيراً من الشفافية والعفوية والتعمّق المرير بالحال الفردية وشجونها وانقلاباتها وخيباتها. حوار يشي بحبّ معلّق، لكنه ينفتح على معاني التضحية بالذات والغرق في المرض والسعي إلى التعويض عن الخيبة بالعمل مع آخرين. ينفتح على أسئلة تُذكّر بمغزى امحاء الذات من أجل الآخر، أو امحاء الذات لأن الذات نفسها باتت على الحافة الأخيرة للحياة. لا ادّعاء ولا تصنّع ولا فبركة، بل واقعية عميقة وقاسية ومُشبعة بحساسيات مفتوحة على هذا الخراب الكبير، الذي يغرق فيه العالم، والعالم هنا هو تلك البقعة الجغرافية التي يتشكّل منها الفيلم، الغارقة في صداماتها الداخلية، وتناقضات أهلها ومشاربهم وخيباتهم. ولعل التعليق الذي يقوله عجوز في قطار، من أنه «لم تعد هناك حشمة في هذه المدينة»، يبقى إحدى الصوَر القاسية عن مدينة مُسرفة في تدميرها الذاتي، أو ربما في إثمها النابع من انسداد أفق، أو من طغيان اهتراء. الـ»حشمة» لن تكون ردّاً أخلاقياً على ما يسمعه العجوز ويراه (موظف لديه عشيقة، وامرأة تطلب من شاب عدم الخوف من المجيء إلى منزلها لأن زوجها لن يأتي غفلة)، لأن الحشمة مفقودة في مجالات أخرى أيضاً: انعدام احترام الآخر، وخصوصيته وحقوقه أيضاً.
قسوة اليوميّ ممتدة إلى قسوة الشكّ في العلاقة الزوجية، على خلفية تناقض طبقي اجتماعي: العامل الكادح يستلم رسالة موجّهة إلى زوجته أصلاً من رجل يتبيّن أنه كان مرتبطاً بها سابقاً. الشكّ قاتل، يكشف هشاشة المرء وتوهانه في مجتمع منقبض على نفسه ومحطّم. لكن الرسالة لن تكون على الصورة المكوّنة سريعاً عنها في ذات العامل، لأنها تكشف ما لا يزال «جميلاً» في نفوس البعض، فإذا بالدمع يغسل روح الرجل الشكّاك، ويُعبّر بصمت عن ندم كبير. إنه (الدمع) يكاد يُشبه دمع المدمن على المخدّرات، الذي أحرق وجه امرأته ذات لحظة غضب ناتج من إدمان وفقر، بعد اكتشافه آثار فعلته، وإن لم يؤدّ الدمع هنا إلى إزالة النفور بينهما.
القسوة الواقعية لا تُلغي جماليات المعالجة السينمائية في «قصص»، كما أن الجماليات نفسها لا تُخفّف من وطأة المواجع التي تُصيب الناس من جهات عديدة. الجماليات السينمائية مفتاح إلى دخول تلك العوالم الإنسانية الفردية، التي باجتماعها في سياق سينمائي واحد تتحوّل إلى عمارة فيلمية آسرة.
المصدر: السفير