«دونكيشوت» من هذا الزمان
طوال سنوات لم يعرف الكثيرون من الأوروغوي سوى منتخبها الرياضي والخبر الذي تداولته وسائل الإعلام مؤخراً عن تحولها لأول بلاد تشرّع قانوناً يسمح بزراعة وتجارة الماريجوانا. حتى جاء الأسبوع الماضي، ليتحول رئيسها «المتقشّف» خوسيه موخيكا نجماً لوسائل الإعلام.
فأينما قلّب المرء نظره في مواقع التواصل الإجتماعي، كان سيقع على صورةٍ أو مقطع فيديو يظهر فيه تارةً وهو يقود سيارته القديمة، أو يتجول في مزرعته وغرف منزله المتواضع بعد أن رفض العيش في القصر الجمهوري. فيما تتحدث تقارير إخبارية طريفة عن مداومته على قص شعره عند حلّاقه الشعبي القديم، وبيعه للزهور التي يزرعها برفقة زوجته، وتبرعه 90% من راتبه لفقراء بلاده ويبقي فقط على ما يكفيه للعيش.
قد يسأل سائل ما سبب هذا الإكتشاف المتأخر لموخيكا الذي أسس في السبعينيات حركة «الثوباماروس المسلحة» (المتأثرة بالثورة الكوبية حسب رأي البعض) وسجن بعدها 14 عاماً قبل أن يصبح رئيساً للبلاد عام 2010، ألم يكن طوال تلك السنوات وحتى الآن أفقر رئيس في العالم؟ ولماذا أصبح نمط حياته الشغل الشاغل للإعلام الآن؟
ربما تعزى هذه الصحوة الإعلامية المفاجئة إلى الزيارة التي قام بها رئيس الأورغوي موخراً للبيت الأبيض، وما سبقها من لقاء صحفي عبر قناة «سي أن أن» الأمريكية مع الإعلامية الشهيرة كريستيان أمنبور. تلاها بعد ذلك تصريحاته عن نيته إستضافة 100 طفل سوري في منزله.
الـ«سي أن أن» تسجل اعترافات يساري ضال
بعد أن توقفت المذيعة الأمريكية مطولاً عند قانون تنظيم زراعة وبيع الماريجوانا المثير للجدل، انتقلت لتسأل وبصورة مباشرة: «كنت في السابق ضمن حركة الثوباماروس المسلحة، وفي ذلك الوقت كان هناك إتجاه عميق معادٍ لأمريكا بين أعضاء الحركة، الآن أنت رئيس الأوروغواي، كيف تشعر إزاء هذا التحول بالقدوم للبيت الأبيض؟».
يجيب المقاتل السابق والرئيس الحالي: «لا يمكن إنكار الواقع، أنا لا أعرف ما إذا كان هذا الكوكب يعجبني أم لا، سيكون من الجنون التفكير بأن بلاداً صغيرةً كبلادي تستطيع تجاهل ما تشكله الولايات المتحدة بالنسبة لها» ويضيف: «أحياناً ما يخيفني حجم القوة التي تمتلكها الولايات المتحدة بتأثيرها على أمريكا الجنوبية، إلا أن هناك أيضاً تطور بشري وتقدم تكنولوجي وعلمي يخدم البشرية، لذلك لا يمكن وضع كل القضايا في سلة واحدة واختصار أمريكا بكلمة، فهي بلد مدهش».
ويكمل موخيكا لينتقد بشكلٍ خجول تأثير الكونغرس، لكنه يستدرك ليعلن بأنه لم يكن يتوقع أن يصل رجلٌ أسود إلى موقع قوة، «تلك معركة كسبت! » يضيف.
أثناء اللقاء، أشارت «أمنبور» أن الرئيس خوسيه موخيكا جاء إلى البيت الأبيض ليطلب من الرئيس أوباما أن يساعده في الحرب ضد التبغ الذي يحصد 8 ملايين شخص كل عام، وفي المقابل هو يعرض استضافة بعض معتقلي غوانتانمو للمساعدة في إقفال السجن.
يمكنك أن تكون قائداً يسارياً شعبوياً دون أن تعادي أمريكا!
يأتي مقال مطوّل في جريدة الغارديان تحت عنوان: «خوسيه موخيكا الأوروغواي: رئيسٌ متواضع مع أفكار جديدة» ليؤكد بعضاً من الشكوك التي أثارتها مقابلة السي إن إن حول أهداف الاهتمام المفاجئ، فبعد أن تفرد الجريدة مساحة واسعة لوصف الصندل الذي يرتديه الرئيس، وغرفته المملوءة بالكتب، والتمثال النصفي لغيفارا في بيته، وتسرد وقائع تاريخه حول تفاصيل سجنه وانتقاله ليصبح رئيساً للبلاد. تذكر الغارديان أن مجلة «السياسة الخارجية الأمريكية» ضمته إلى قائمة رواد المفكرين العالميين عام 2013. والتي كتبت حينها: «عندما توفي الرئيس الفينزويلي هوغو تشافيز في شهر مارس، افترض الكثيرون أن اليسار الصاعد في أمريكا اللاتينية سوف يموت بموت الشعبوي المتبجح بقمصانه الحمراء. إلا أن موخيكا من خلال القطيعة مع نموذج تشافيز العلني في معاداته للولايات المتحدة، ومع الجذور العميقة للاتجاه المحافظ الاجتماعي، يفتح لرفاقه مساراً جديداً للمضي قدماً».
صرح الفوضوية في أمريكا اللاتينية
تسرد الجريدة بعد ذلك قائمة «الإنجازات الحقوقية» التي حصلت في عهد موخيكا إبتداءً من القانون الذي يشرع الإجهاض في الأشهر الثلاثة الأولى من الحمل، والفريد من نوعه في أمريكا اللاتينية، ثم قانون يجيز زواج المثليين. ويفسر موخيكا كل ذلك بكون الأوروغواي «بلاد المهاجرين والأناركيين والمضطهدين من جميع أنحاء العالم، ما جعلها أكثر دولة علمانية في أمريكا اللاتينية». وهي جوانب أخرى ترفع حظوظ الرئيس في أن يلقى جرعة من «دلال» واهتمام وسائل الإعلام الغربية.
«يا فرحة ما تمت»..
لا يثير الاهتمام الجماهيري بالرئيس خوسيه موخيكا الاستغراب، فالناس حول العالم يتوقون لرئيس متواضعٍ يعمل لأجل الفقراء، بعد أن ضاقوا ذرعاً بسلوك معظم صنّاع القرار في سعيهم المحموم للمال وإساءة إستخدام السلطة. يحاول الإعلام من خلال ترويجه لصورة الرئيس موخيكا تكريس صورة الرئيس «الهبيّ» المتقشّف الذي يتمتع بصفات شخصية وفردية خاصة، يحاول بمفرده حل بعض المشكلات العالمية بفتح بيته للاجئين والتبرع برواتبه للفقراء ومحاربة التدخين، كما دونكيشوت الذي قاتل وحده طواحين الهواء، بدلاً من منظومة يسارية متكاملة وجذرية. وهنا يحق السؤال: هل يحتاج العالم إلى رئيس يعيش فقيراً كالفقراء ويعلن خسارته أمام الظلم الذي يحصل في «الكوكب» ويقبل بالسطوة الأمريكية؟ أم يحتاج قائداً يحاول أخذ موقف شجاع داخل أمريكا اللاتينية والعالم لمصلحة الفقراء وضد الهيمنة الأمريكية؟
يقدم الإعلام الغربي نموذج «يساري شعبوي» في الشكل، كان يوماً مقاتلاً ضالاًّ في عصبة مسلحة معادية للولايات المتحدة تقوم باختطاف الناس وسرقة البنوك (كما تصفها الغارديان)، لكنه استسلم اليوم لثقل الواقع وسطوة الولايات المتحدة الأمريكية، في محاولة لضرب نموذج تشافيز المضاد والمعادي لأمريكا على طول الخط.
بالرغم من أن الموضوع يحتاج إلى المزيد من البحث والتقصي والحصول على معلومات موثوقة حول واقع الأوروغواي واتجاهها الاقتصادي والسياسي وثقلها ضمن أمريكا الجنوبية، إلا أن التصريحات والإشارات التي قدمتها مؤسسات الإعلام الغربي حتى الآن تترك شعوراً عميقاً بالخيبة، كما لو أن «الفرحة بأفقر رئيس في العالم ما تمّت».
بالرغم من ذلك هناك مؤشر إيجابي هام ينبغي أخذه بعين الاعتبار، ويتمثّل بوصول وسائل الإعلام الغربية إلى حائط مسدود في محاولاتها الترويج لصورة الرؤوساء وصنّاع القرار الرأسمالين الأثرياء، وانتقالها للعمل على خلق نماذج يسارية مشوهة تخدم مصالحها في نهاية المطاف، لأنها تستشعر، أكثر من أي وقت مضى، الاتجاه المتصاعد الرافض للنظام الرأسمالي العالمي ووجوهه السياسية. لكن كل تلك المحاولات لن تمنع شعوب العالم مع الوقت من أن تخلق قادتها وأبطالها الثوريين الحقيقيين، إن لم يكن خوسيه موخيكا سيكون غيره!