حرفة بصرية وحساسيات إنسانية في «مهرجان دبي السينمائي الدولي»
لم تكن إمكانية فقدان منزل عائليّ النواة الدرامية الوحيدة لفيلمي «ثلج» للإيرانيّ مهدي رحماني و«الدرس» للبلغاريين بيتر فالشانوف وكريستينا غروزيفا.
التشابه في النواة يُرادف تشابهاً في عناوين أخرى: الخديعة. التفكّك. ثقل الذاكرتين الفردية والجماعية. انسداد أفق، أو سعيٌ إلى اختبار حياتي آخر. الواجهة «الإنسانية» احتيال على مُبطّن ممزّق. الفقر ليس سبباً لفقدان منزل عائليّ. العائلة الإيرانية منتمية إلى طبقة اجتماعية متوسّطة الحال، وراقية إنسانياً وحضوراً. العائلة البلغارية ـ اليونانية منتمية إلى طبقة أفقر. المأزق كامنٌ في الكذب. السرقة التي تحدث داخل الصفّ المدرسيّ لمراهقين لا تختلف عن سرقة أخرى تجد المُدرِّسة نفسها أسيرتها. الاحتيال المالي للابن البكر في العائلة الإيرانية سبب انهيارٍ ظاهرٍ موغلٍ في وهم تماسك وادّعائه، ومدخلٌ إلى عمق المُبطَّن وانكشاف اهترائه وألاعيبه وأكاذيبه.
يُمكن وضع الوثائقي «روشْميا» لسليم أبو جبل (مواليد الجولان السوري المحتلّ، 1971) في إطار السؤال نفسه: فقدان المنزل. لكن المناخ العام هنا مختلفٌ تماماً، كما التفاصيل. أبو جبل ذاهبٌ إلى حكاية تمزج الذاتيّ بالجماعة. الثنائي العجوز يوسف حسان وزوجته آمنة مقيمان في كوخٍ فقيرٍ للغاية في وادي روشْميا في حيفا. السلطة البلدية تريد إنشاء نفق يمرّ في الوادي، ما يتطلّب إزالة الكوخ، وترحيل العجوزَين. هذا صراع من نوع آخر. صراع مكشوف بين مواطنَين واحتلال. بين ثنائي عجوز يتمزّق في عامه الثمانين ومحيط منهار. بين ذاكرة مشبعة بحكايات وتناقضات وراهن مسيّج بالنهايات الواضحة. ليس الفيلم نضالياً ضد احتلال إسرائيلي. إنه نضاليّ (بالمعنى السينمائي الوثائقي) ضد قسوةِ واقعٍ وخرابٍ آنيٍّ متجذّرٍ في انهياراته.
الأفلام الثلاثة هذه مُشاركة في برنامجي «سينما العالم» (الفيلمان الأولان) و «المهر الطويل» (الفيلم الثالث)، في الدورة الـ 11 لـ «مهرجان دبي السينمائي الدولي»، المنتهية مساء 17 كانون الأول 2014. أفلام ذات ميزانيات متواضعة، ومستويات راقية جمالياً وفنياً وبصرياً وسردياً. البساطة والسلاسة والعفوية سمات إبداعية لشخصيات ومواضيع وآليات معالجة. سمات تحمل في جوهرها عمقاً إنسانياً مفتوحاً على أسئلة جمّة، كالكذب والتفكّك والانهيارات مثلاً. 6 شخصيات أساسية في «ثلج»، وطيف أب يُظلّل الحكاية. 3 شخصيات في «الدرس»، وحضور أب يزداد قسوة. شخصيتان اثنتان في «روشْميا» تقفان عند حافة الهاوية، بالمعنين المباشر والمعنوي، إذ يُصوّر سليم أبو جبل واحدة من اللقطات الأكثر تعبيراً عن الخراب: الزوجان العجوزان يقفان عند حافة الوادي في انتظار انتقالهما إلى مكان ما، والجرافة تهدم الكوخ والمكان. الشخصيات كلّها تعاني قسوة، وإن بأشكال متفرّقة. تعاني وحشة واغتراباً عن ذواتها في اللحظة التي تشهد بداية التفكّك. العائلة الإيرانية تواجه يوماً مصيرياً، يتمثّل بزيارة أهل عريس لابنتهما الوحيدة (لديها شقيقان)، لكنها عاجزة عن التماسك في مواجهة انهيار أكيد. العائلة المؤلّفة من أم بلغارية وأب يوناني وابنتهما تغرق، رويداً رويداً، في الانفصال الداخلي، ريثما تنجلي مسألة القروض غير المدفوعة. العجوزان الفلسطينيان يعيشان يومياتهما بشكل طبيعي في وضع غير طبيعي من حولهما.
لا ادّعاءات تصويرية أو فنية أو جمالية في الأفلام الثلاثة. البساطة والسلاسة سمتا صناعة سينمائية أيضاً. الوثائقي مبنيّ على ركيزة عادية: مرافقة العجوزين في يومياتهما. الروائيان الطويلان لا يُقدّمان فذلكات بصرية، بل تبسيطاً متلائماً وجودة المعايير السينمائية وسحرها. الحوارات الكثيرة جزءٌ من البناء الدرامي للأفلام الثلاثة، لكنها لا تمتّ بأدنى صلة إلى ثرثرة كلامية أو لفظية. الزمن (الحقيقي أو الدرامي) مُكثّف بطريقة تمنح الحكايات أبعاداً إضافية لبلورة مسار، أو لرسم ملامح. يوم واحد فقط في «ثلج» كافٍ لتقديم نبذة عن معنى الفقدان والانهيار. أيام متلاحقة في «الدرس» و»روشْميا» لا تلغي جمالية التكثيف السينمائي في مقاربة الإنسانيّ البحت، القادر ضمناً على كشف السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ أيضاً.
الأفلام الثلاثة هذه جزءٌ من برمجة سينمائية تتضمّن عناوين أساسية في معنى السينما البسيطة، المُحمّلة بمواضيع عميقة إنسانياً وروحياً.
المصدر: السفير