فلسطين.. البوصلة والهدف!
لم يرتقِ مستوى التعاطي الرسمي العربي مع القضية الفلسطينية إلى الحد الذي يمكن أن يقال عنه، إنه استطاع في يوم ما أن يعبّر عن إرادة الجماهير العربية ووجدانها وإمكاناتها وتطلعاتها.. لم يحصل ذلك لا في فترة الثورة الفلسطينية الكبرى 1936، ولا قبيل وبعيد النكبة 1948، ولا حتى في الفترة «الناصرية» وما تلاها..
بل يمكن التأكيد أن مستوى عالياً من عدم الرضا الشعبي عن أداء الحكام العرب ومؤسستهم الجامعة، ما انفك سائداً في الشارع العربي منذ ادعاء الأنظمة المتسلطة عليه أن القضية الفلسطينية هي قضيتهم المركزية، ولكن عدم الرضا العارم والشامل هذا، لم يُتح له أن يُترجم سلوكاً احتجاجياً صارخاً إلا ما ندر، بسبب القمع الشديد وانعدام الحريات العامة والحياة السياسية، وظل يُعبَر عن نفسه همساً ساخراً مرّاً في الأماكن المغلقة بعيداً عن أعين وآذان العسس، مع كل تصريح «عنتري» أجوف يطلقه هذا الحاكم أو ذاك عقب مجزرة أو عدوان ضد الشعب الفلسطيني، أو مع كل بيان مليء بـ«سينات» التسويف تصدره «القمم» الدورية أو الطارئة.
وقد جاء منع الجماهير من التعبير عن سخطها على أداء النظام الرسمي العربي تجاه القضية الفلسطينية، وتجاه المقاومة الفلسطينية في الداخل والشتات، تتويجاً لمنعها من اتخاذ زمام المبادرة في عملية التحرير، أو المشاركة الجدية فيها منذ وقوع المأساة الفلسطينية، ليضاف هذا التهميش والتحييد إلى حزمة الهموم والشجون الكبيرة التي راكمت الاحتقان الاجتماعي في صدور الجماهير، والذي يسفر عن نفسه اليوم على شكل احتجاجات شعبية واسعة ومتفاقمة تمتد من المحيط إلى الخليج.
في سورية التي تعنيها القضية الفلسطينية أكثر من سواها في المشرق والمغرب لأسباب تاريخية /اجتماعية، وطبيعية، أدرك الحكام الذين تعاقبوا على حكم البلاد بعد الاستقلال، أن الموقف من الكيان الصهيوني ومن الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني هو من أهم عوامل قبول أو رفض النظام شعبياً، لذلك اضطروا جميعاً لمراعاة ذلك، ظاهرياً على الأقل في بعض الأمثلة، أو بتبني موقف صريح معاد للصهيونية وللكيان الغاصب في أمثلة أخرى، ولكنهم في العموم لم يتجاوزوا الحدود الدنيا «المفروضة شعبياً» في تعاطيهم مع القضية، وظلوا يراوحون ضمن المساحات الضيقة لهذه الحدود.. ولم تختلف الصورة كثيراً بعد هزيمة حزيران 1967 واحتلال القسم الأكبر من الجولان، باستثناء محطات قصيرة (حرب تشرين المثال الأبرز)، بل ظل (أضعف الإيمان) هو الغالب، وخصوصاً بعد انهيار المنظومة الاشتراكية، وراح يتمثل واقعياً بمحاولة ممانعة المخططات والمشاريع الأمريكية والصهيونية قدر ما تتيحه الظروف الداخلية والخارجية، واللجوء إلى الدفاع في مواجهة بعض أشكال العدوان التي تكررت في أوقات متقاربة، ودعم بعض فصائل المقاومة الفلسطينية واللبنانية التي تشكلت بعد سقوط الرهانات على النظام الرسمي العربي..
ورغم أن انتصار تموز 2006، وصمود غزة 2008 أثبتا أن العدو الصهيوني ليس مطلق القدرة، وأن هزيمته وإنهاء وجوده كلياً واستعادة الأرض والحقوق ليس أمراً مستحيلاً، ورغم أن الأزمة الشاملة لداعميه ومموليه وحماته الرأسماليين العالميين أرخت بظلالها الثقيلة عليه وعليهم، إلا أن تجاوز الحدود الدنيا إلى الحدود القصوى، أي الانتقال من الممانعة إلى المقاومة، أو من الدفاع إلى الهجوم، لم يتم حتى الآن، علماً أن العدو ضعيف جداً، وبسبب ضعفه الشديد، يبذل كل ما بوسعه لتفتيت مقومات أي انقضاض محتمل عليه عبر محاولته بواسطة أزلامه وعملائه داخل جهاز الدولة السوري وخارجه إحداث أو تفعيل فوالق فئوية تناحرية لا تبقي ولا تذر.
الآن هو وقت الهجوم على العدو وسحقه.. وقت المعارك الحقيقية لا الوهمية، وقت الإيمان بالجماهير والإصغاء إلى مطالبها في الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الوطنية.. هذا ما أراد قوله الشباب الفلسطيني والعربي الذي اندفع أعزل إلى الأراضي المحتلة الفلسطينية والسورية رفضاً للنكبة ودفع دماءً في سبيل ذلك.. وهنا لا مجال للتلكؤ أو التردد، فالوقت ضيق جداً، وقد يقتنصه العدو وينعطف به نحو نكبة جديدة أكثر إيلاماً وأوسع خطراً وتأثيراً..
فلنهاجِم... الآن!!